لن أتكلم عن تاريخ الأزهر جامع وجامعة من حيث التأسيس والتطوير ، ولا عن دوره ونشاطه، ولا عن أروقته وساحاته، ولا عن جهاد رجاله ومواقفهم، و لا عن علومه وفنونه، ولكني أتكلم عن صفحة مجهولة من تاريخ الأزهر، تتبعتها منذ زمن، وهي ضمن مشروعي: ( بحوث من تاريخ الأزهر ) الذي تتبعت فيه الصفحات المجهولة من تاريخ الأزهر، وبمناسبة مرور ١٠٨٣ سنة على افتتاح الأزهر، أنشر لكم مقتطف حول موضوع من موضوعات بحوث من تاريخ الأزهر ، فهيا بنا نسير عبر الزمن، لنسترجع الماضي، ونقف على دقائق الأمور.
تتردد حول مسامعنا جملة: ( العيد الألفي للأزهر )، فما هي حقيقة هذه الجملة، وكم مر على الشعب المصري والعالم الإسلامي من السنين الطويلة حتى رأى تلك الكلمة حقيقة؟
لقد ظفر الأزهر الشريف بمكانة سامية، وتقدير كبير، فما من أمة في العالم الإسلامي لم تصل إليها أضواؤه، ولم ينلها فيض عطائه، ففي سنة ١٩٣٢م الموافق ١٣٥١ هجري أقامت جامعة غرناطة بإسبانيا احتفالا بديعا، بمرور أربعة قرون كاملة على تأسيسها، ودعت الجامعة الأزهرية إلى هذا الاحتفال العظيم، فناب عن الجامعة حضرت الأستاذ محمد خالد حسنين بك، كبير مفتشي العلوم والآداب بالأزهر الشريف، وألقى محاضرة قيمة باللغة الفرنسية،بعنوان:(أقدم جامعة في العالم)تكلم فيها عن:
عن الأزهر الشريف من حيث تأسيسه، وطريق التعليم فيه، وعن شيخ الأزهر، واللوائح والقوانين، و مراحل التعليم بالأزهر الشريف، والمواد التي تدرس في كل مرحلة.
وعن المعاهد الأزهرية في ذلك الوقت، وعن سكن طلبة الأزهر، ثم ختم المحاضرة بذكر تاريخ المكتبة الأزهر، وميزانية الأزهر.
وبعد مرور عدة أشهر من هذا الاحتفال خرج واحد تغذى على موائد علماء الأزهر، وارتشف من مناهله العذبة حتى تخرج من الأزهر، وأصبح من حملة الأقلام، انضم الي تلك الحملات الطائشة ضد الأزهر الشريف، فكتب مقالا بملحق السياسة الاسبوعية بعنوان:( تأخر الفكر الديني في مصر الأزهر)، قال فيه:
(بعد عشر من السنين أو ثمان تتم السنون الألف على الأزهر، فهو على ذلك أقدم جامعة في العالم الآن، ولنا أن نفخر به وبعمره الطويل، هذا فخر عظيما، ولكن المباهاه بالعمر الطويل لا تكفي إلا إذا كان لها سند من الفخر بالعمل الجليل والنفع الجزيل، وقد تكون المفاخرة بالعمر الطويل وحده باعثة على الأسف والحزن الشديد، وليس الأسف والحزن على أن الأزهر قد قطع هذه السنين لم يؤد فيها ما يجب أن يؤديه معهد جامع، بل الأسف المزيد، والحزن الشديد على أن هذا الأزهر لا يؤدي ما يجب أن يؤديه معهد جامع للدراسات الدينية واللغوية...).
لقد اتهم هذا الكاتب بأن الأزهر لم يؤد واجبه الديني واللغوي طيلة ١٠٠٠ عام، وأن كل مفاخر الأزهر هي مرور ١٠٠٠ عام فقط؛ وكأنه قال ليست لنا حاجة للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر.
وقد كتب واحدا من علماء الأزهر مقالا رد فيه على هذا الكاتب، والمقال نشر في مجلة الإسلام.
و في ٢٢ يونيو سنة ١٩٣٣م , نشر الأستاذ المؤرخ عزيز بك خانكي، مقالاً في الأهرام عنوانه: ( ذكرى مرور ١٠٠٠ سنة على تأسيس القاهرة والجامع الأزهر ) .
و كان يبقى على تمام الألف سنة ست سنوات، وقد دعا في مقاله إلى تأليف لجنة من كبار المفكرين للتحضير لمهرجان عظيم للاحتفال بألفية القاهرة والأزهر، بحيث يعكف رجال العلم في مصر لكتابة تاريخ الألف سنة , وندعو لحضور كبار رجال العلم في أوربا وأمريكا والبلاد العربية.
ثم كان في اليوم التالي أن نشر الأستاذ داود بركات بك _ رئيس تحرير جريدة الأهرام _ مقال يعقب فيه على الأستاذ عزيز بك بقوله : ( مرحباً بالفكرة، واقترح الشروع في ذلك في الحال، بحيث يجتمع رؤساء الأزهر الشريف، ومدير الآثار الفرعونية ،والقبطية،والرومانية، والعربية، ورئيس الجمعية الجغرافية، ورئيس المعهد العلمي، ومدير المعاهد، وعمداء الكليات ومن إليهم، لبداية تنفيذ هذا المشروع، مؤملاً أن يخرج على وصف يتفق وعظمة القاهرة وعظمة تاريخها ) .
ثم إن النسابة الكبير الأستاذ حسن قاسم، قد عني بتحرير تاريخ الاحتفال بالعيد الألفي للأزهر سنة ١٣٥٢هجري، حيث قال في أحد مقالاته:
وفي يوم الأحد ٩ رمضان سنة ١٣٦١هجري الموافق ٢١ ديسمبر ١٩٤٢م، يكون قد مضى على هذا الأثر الخالد ألف عام هلالي، وهو اليوم المنتظر الذي ستبتهج فيه الأمة المصرية بل الأمم الإسلامية بأسرها أيما ابتهاج، بإحياء ذكريات هذه الجامعة الكبرى والمعهد الإسلامي العظيم.
ثم إنه كتب عدة مقالات تحت عنوان:( مشيخة الأزهر والجامعات الإسلامية في بلاد المغرب)، فكتب عن تاريخ الأزهر وعن أثره العظيم في انتشار العلوم والمعارف بين ربوع الشرق كله؛ وقد دار حديث بينه وبين الإمام الأكبر الشيخ الظواهري حول هذا الموضوع؛ وقد بلغ عدد المقالات التي كتبها و تحت يدي منها في مكتبتي قرابة ٣٠ مقال.
ثم كان من مشيخة الأزهر أن أنشأت لجنة سنة ١٣٥٥ هجري لكتابة تاريخ شامل للجامع الأزهر الشريف، استعداداً لعيده الألفي، والذي كان مقرراً له سنة ١٣٥٩هجري، واستدعت لذلك عدد من المؤرخين، وعقدت تلك اللجان بضعة اجتماعات، وتحدثت الصحف عن ذلك، وارتقب الشعب المصري هذا الحدث العظيم، ولكن سرعان ما توقف عمل تلك اللجنة.
ثم بعد مرور عدة سنوات أذاعت الصحف أن مشيخة الجامع الأزهر تنوي أن تضع برنامجاً جديدًا للاحتفاء بالعيد الألفي للأزهر، وأنها ستبدأ قريباً باتخاذ الخطوات العملية لإحياء هذه الذكرى الخالدة؛ وقد كانت للمشيخة عناية خاصة بهذا العيد منذ أعوام، وكان لها برنامج حافل وضعنه للاحتفاء بالذكرى الألفية.
وقد اتخذت بالفعل عدة خطوات عملية في هذا السبيل فانتدبت مختلف اللجان لوضع تاريخ الأزهر ولتنظيم الاحتفال، ودعوة مندوبي العالم الإسلامي، وغير ذلك مما يقتضيه إحياء هذه الذكرى الجليلة.
ولكن هذه الاستعدادات وقفت فجأة؛ وقيل يومئذ إن الوقت ما يزال متسعاً فلا داعي للعجلة في هذا الاستعداد.
وكان هذا القول غريباً في ذاته لأنه لم بين انقضاء الألف عام على قيام الأزهر سوى ثلاثة أعوام.
ثم ضاع وقت الاحتفال بالعيد الألفي للأزهر في موعده.
ثم كانت محاولة من الأستاذ محمد عبد الله عنان أن لفت أنظار أولى الأمر: إلى أن الفرصة ما تزال سانحة للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر، وأنه إذا كان الجامع الأزهر قد بلغ عمره الألفي في رمضان سنة ١٣٦١ه، باعتبار أننا نتخذ تاريخ إنشائه أساسا لاحتساب عمره الألفي، فإنه ما تزال ثمة فرصة أخرى، لاحتساب عمره الألفي كجامعة ومعهد للدرس، وهو قد بدأ حياته الجامعية في شهر صفر سنة ٣٦٥ه، وعلى ذلك فإنه يبلغ عمره الألفي على هذا الأساس في صفر سنة ١٣٦٥هجري الموافق ١٩٤٦م.
ولكن هذه الدعوة ذهبت كسابقتها سدى، وانتهى الأمر بأن ألقت مصر على عيد من أعظم أعيادها العلمية والقومية، حجب الإغضاء والنسيان.
والفكرة قائمة واردة تراود المتحمسين لها حينًا بعد حين،ثم جاءت سنة ١٩٧٠ وأصدرت الحكومة المصرية عملة تذكارية احتفالاً بمرور ألف عام على الأزهر سنة ١٩٧٠م،وهو موافق لتاريخ إنشاء الجامع الأزهر بالميلادي؛ استدراكا على ضياع الفرصة للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر.
وما زال الكل يترقب الاحتفال المهيب للأزهر الشريف، حتى صدر قرار ١٢٠٤ لسنة ١٩٧٣ بتشكيل اللجنة العليا للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر.
وللأسف الشديد قد نسى القوم هذا القرار، ولم يعدوا له العدة ، وضاع الاحتفال بالعيد الألفي للأزهر للمرة الثالثة.
ثم جاء العزم مرة أخرى، وصدر القرار الجمهوري رقم ٢٥٧ لسنة ١٩٨١ بإعادة تشكيل اللجنة العليا للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر تحت اشراف رئيس الجمهورية بنفسه، حتى لا يضيع الاحتفال مرة رابعة ؛ وقد حرص الجميع على انجاز هذا الاحتفال التاريخي الكبير.
اتجهت همة اللجنة إلى عديد من الأمور، منها:
١_ فرش الأزهر بالسجاد الجديد الذي عمل خصيصا له.
٢_أعدت وزارة التعمير والإسكان خطة لاصلاحه واعماره وصيانته.
٣_نشطت همة وزارة التربية والتعليم ومدارسها بالندوات والمسابقات القرآنية والدينية والثقافية، وبعرض المسرحيات والفنون التشكيلية بالتعريف بالأزهر بكل صورة ممكنة.
٤_نشطت هيئة المعاهد الأزهرية، والجامعة الأزهرية لمثل ما نشطت به التربية والتعليم.
٥_ أقامت إدارة شئون القرآن بوزارة الأوقاف، وإدارة شئون القرآن بالأزهر مسابقات في حفظ القرآن وترتيله، تداعى للفوز فيها شباب مصر وطلابها، وشباب الشعوب الإسلامية الوافدة.
٦_ شهدت مراكز الشباب وقصور الثقافة في أنحاء الجمهورية مباريات رياضية باسم الأزهر.
٧_ أصدرت مصلحة سك العملة جنية تذكاري لهذه المناسبة.
٨_ صدرت عن هيئة البريد طوابع تذكارية عن الأزهر.
٩_ أعد المركز القومي للسينما عدة أفلام عن الدراسة فى الأزهر قديما وحديثا....
١٠_ شاركت الهيئة العامة للاستعلامات بمجموعات من المطبوعات والبطائق الإعلامية وبعدد خاص من جريدة مصر للسينما.
١١_ أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب سجل خاص عم ألفية الازهر شامل جامع؛ أعد مادته نخبة ممتازة من علماء الأزهر، وجامعات مصر.
١٢_ أصدر الأزهر كتابا بمناسبة الاحتفال، أدلى فيه أصحاب الرأي من أنحاء العالم بخواطرهم وتطلعاتهم نحو الأزهر وتطويره.
١٣_ تداعى عشرات العلميين إلى مسابقة ذات جوائز رصدتها الأمانة العامة للجنة العليا للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر في موضوعات عن الأزهر وعن الإسلام، وعن مصر الإسلامية.
باشرت اللجنة العليا للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر مهمتها في يوليو سنة ١٩٨١م، وتم الاحتفال المهيب بالعيد الألفي للأزهر سنة ١٩٨٣م ، واحتفلت محافظات مصر ومدنها وقراها من أقصاها إلى أقصاها بالمهرجانات والاحتفالات في مدارسها ومساجدها ومنتدياتها ومراكزها الثقافية والشبابية ، وفي محافلها الشعبية فرحا ببلوغ الوليد عامه الألف، تحدث فيه الجميع بنعمة الله على مصر التي نبت فيها هذا النبت الصالح:( الأزهر الشريف).
حتى قال العلامة الكبير محمد رجب البيومي: من قرابة نصف قرن، ونحن نقرأ في الصحف عن ضرورة للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر، فتعقد لجان، وتعد اقتراحات لإنجاز هذا الاحتفال الرائع، ثم يمضي الوقت دون تنفيذ، ولكننا اليوم نرى دعوة جادة صادقة لهذا الاحتفال، ونرى اهتماما مشهودا، يؤذن بالجدية المثمرة.
تلك لمحة عابرة من السياحة والسباحة حول التأريخ للعيد الألفي للأزهر الشريف؛ رأينا فيها صفحات من تاريخ الأزهر مجهولة.
رحم الله علماء الأزهر الأبرار، ورضي عنهم، فهم أئمة الهدى، وجبال الملة، وأعمدة الشريعة، العارفون الصالحون.