قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

منال الشرقاوي تكتب: بيت الديناميت A House of Dynamite

منال الشرقاوي
منال الشرقاوي

يعود الفيلم الطويل للمخرجة كاثرين بيجلو ليضعها من جديد في صميم أسئلة الخطر النووي وأخلاقيات القرار السياسي، لكن A House of Dynamite لا يكتفي بأن يكون فيلمًا سياسيًا أو ثريلرًا عسكريًا؛ إنه محاولة لرسم مرآة لطبيعة الإنسان حين يصبح العالم كله معلقًا على حافة زر أحمر. 
فهو فيلم عن صاروخ عابر للقارات قادر على ابتلاع مدينة كاملة، ومع ذلك يختار أن يقدم نهاية العالم من خلال شاشات صغيرة ومكاتب مضاءة بالفلورسنت… كما لو أن الكارثة تروى بصوت ضعيف، فيما يظل الخوف الحقيقي محبوسًا خلف الزجاج. 
تستخدم بيجلو أسلوبها المألوف في خلق توتر متدرج، يعتمد على التفاصيل لا على الانفجارات؛ نظرات صامتة، أصوات أجهزة، خطوات سريعة في ممرات تحت الأرض. ليكشف الفيلم بصريًا عن الفكرة المركزية التي أرادت قولبتها: العالم الحديث يشبه بيتًا مصنوعًا من الديناميت، وأي احتكاك بسيط قد يفجره.
تحاول بيجلو أن تمنحنا يوماً عادياً في حياة موظفي الدولة قبل أن يتصدع العالم، لكن هذا “العادي” يبدو مصنوعاً أكثر مما هو معيش وهذا ما يجعله مختلف. الشخصيات كلها تعرف بسطر، هذه على وشك الطلاق، ذاك في مشكلة مع شريكه، وذاك عالق في روتين البيت الأبيض. لكن هذه التفاصيل لا تنبت جذوراً، ولا تنمو لتصبح لحماً ودمًا؛ مجرد بطاقة تعريف تسلم للمشاهد قبل الدخول إلى الأزمة.
الحوار يشبه حديث غرف الاجتماعات، مختصر، جاف، ومصنوع بدقة تجعلك تشعر أن الحياة الحقيقية تجلس في غرفة أخرى. نسمع عن عشرين مليون ضحية محتملين، لكننا لا نرى وجهاً واحداً من بينهم. ولا مرة نشعر أن المدينة التي ستمحى تستحق حداداً، أو حتى التفاتة. الكارثة هنا رقم… لا ذاكرة له.

مع تقدم الفيلم، يجرنا السرد إلى ما يمكن أن أسميه -من باب التبسيط لا التهكم- سلم المكاتب؛ بناء ثلاثي الطبقات يعيد الحدث نفسه ثلاث مرات، كأن العالم لا ينفجر إلا عبر الدرج الإداري. تبدأ الرحلة في أدنى مستوى، في مكتب صغير بقاعدة “فورت جريلي” في ألاسكا، حيث يبدو كل شيء هشا، مضطربًا، ومرهونًا بمراقب يتساءل إن كان ما يراه مجرد خلل تقني أم بداية النهاية. ثم نعاد إلى اللحظة ذاتها في مستوى أعلى، داخل مكاتب المستشارين وصانعي القرار المتوسطين -أولئك الذين يعرفون كل شيء إلا ما ينبغي فعله حقًا- فتبدو الكارثة أقل إنسانية وأكثر بيروقراطية، كأنها معادلة ضل فيها رقم.
وفي المستوى الثالث، يصل الفيلم إلى قمة السلم،  مكتب الرئيس، حيث يفترض أن يكون اليقين، بينما لا نجد سوى التردد والارتباك. هنا يصبح البناء السردي واضحًا في رسالته أكثر من وضوحه في تأثيره، كلما صعدنا درجة في الهرم، نقصت القدرة لا زادت، وتحول القرار المصيري إلى لعبة هواء بين القلق الشخصي والخوف من الخطأ. وهكذا، بدل أن تمنح الطبقات الثلاث الفيلم عمقًا، تتحول إلى إعادة تشغيل متتالية لنفس المشهد، بلا تراكم عاطفي أو درامي، وبلا منظور يثري ما سبق. مجرد انتقال من غرفة لأخرى… بينما الكارثة الحقيقية تحدث في مكان آخر، خارج هذه الأبواب المغلقة.
وعلى الرغم من أن الفيلم يدور حول حدث نووي هائل، إلا أنه يتعامل بحذر شديد مع السياسة، وكأنه يخشى أن يخطو خطوة واحدة خارج حدود الغرف المغلقة. لا يشير بوضوح إلى الجهة المنفذة، ولا يناقش معنى الرد الأميركي أو وزنه الأخلاقي، ويترك أسئلة الشرعية والمصير معلقة في الهواء. ما يقدمه -في معظمه-  سلسلة أعطال وسوء تنسيق ورسائل متعارضة وتحركات قيادية مرتبكة، كأن الكارثة لا تتفجر من صاروخ بقدر ما تتفجر من نظام فقد تماسكه.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن هذا الخيار – مهما بدا محدودًا – يكشف وجهًا آخر للفيلم، وهو وجه الخوف من الفوضى، لا من الحرب. الخوف من اللحظة التي يتعطل فيها النظام، فيتعطل معها العقل الذي يفترض أنه يحمي الدولة والقرار والمصير. هي فكرة أعمق من معالجتها، وأكبر من الأداء الذي قدم لها، لكنها تظل شرارة لافتة تهز شيئًا في وعي المشاهد وتدعوه للتساؤل: ماذا لو كان النظام الذي نثق به هشا إلى هذا الحد؟
بهذا يتأرجح الفيلم بين قوتين، قوة الفكرة التي تلمع في خلفيته – خوف انهيار الدولة لا الخطر الخارجي – وضعف الأدوات التي اختار أن يمررها بها. بين جرأة أن يضع إصبعه على جرح بنية النظام الأميركي، وتردده في الضغط على هذا الجرح إلى النهاية.

“بيت الديناميت” عمل يقف في منطقة وسطى مقلقة، يريد أن يكون وثيقة واقعية لكنه يتوه أحيانًا داخل شاشاته الباردة. يحاول أن يقدم درسًا سياسيًا، لكنه يفعل ذلك بحذر شديد يجعل رؤيته تبدو وكأنها مكتوبة بالطباشير على سبورة لا تتوقف عن الابتلال. يسعى إلى خلق رعب معاصر، لكنه يميل أحيانًا إلى استعراض التفاصيل المؤسسية أكثر من الغوص في الإنسان نفسه.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن الفيلم يملك قدرًا من الشجاعة؛ فهو يجلس فعلًا على حافة الكارثة، يراقبها من مسافة محسوبة، لأنه يريد للمشاهد أن يشعر بأن الهاوية لا تحتاج دائمًا إلى خطوة… أحيانًا يكفي أن نتخيلها. 
ربما لهذا يخرج المرء من القاعة محملًا بأسئلة أكثر مما خرج بخوف، وبقدر من الاطمئنان لا يلائم حجم الخطر المعروض، لكنه جزء من لعبة الفيلم ذاتها، أن يجعل التفكير يفوق الارتجاف.
قدمت بنية الفيلم بصرامة واضحة، تتصاعد فيها الأحداث بوتيرة محكمة نحو لحظة الاختناق الأخيرة. نهايته المفتوحة جاءت من باب الصدق مع عالم لا يقدم إجابات مكتملة. وربما لهذا السبب تحديدًا بدت النهاية -على الرغم من فجوتها- مرضية، من النوع الذي لا ينبغي أن يحسم، لأنه لو أغلق لفقد الفيلم روحه وهدفه.
ففي النهاية، ليس الخطر في القنبلة، ولا في الصاروخ، الخطر الحقيقي في العقل الذي يحاول التعامل مع كل ذلك تحت ضغط الزمن، وتحت ثقل القرار. وهكذا يتركنا “بيت الديناميت” أمام الحقيقة الأبسط والأقسى: أن الخطر لا يأتينا من الخارج، فهو يولد في لحظات التردد التي لا يراها أحد.