بين عبقرية المكان وعراقة الزمان تم افتتاح المتحف المصري الكبير، الذي شُيِّدَ كصرح فخم يليق بعظمة ومهابة الأجداد وبُني بسواعد الأحفاد من البنائيين المصريين لا غرابة في ذلك، فهذا الأصيل ينحدر من ذاك العريق ،وجاءت الاحتفالات عارمة وعفوية لملايين المصريين في جميع أرجاء المحروسة، لتمحو أي محاولة للنيل من أصالة وهوية الشخصية المصرية المتجذرة في أعماق التاريخ، فمصر جاءت أولاً ثم دُوِّنَ التاريخ.
وعند تناول الهوية المصرية وسر صمودها في أرضٍ تُقاس حضارتها بآلاف السنين لا بالقرون فحسب، يتحتم علينا استلهام فكر عباقرتها، لفهم الكيفية التي استطاعت بها هذه الشخصية، عبر تاريخها الطويل، الحفاظ على ثباتها واستمراريتها
فقد نجحت الشخصية المصرية ،كما وثّق الدكتور جمال حمدان في موسوعته الأشهر شخصية مصر من الحفاظ على ثبات هويتها عبر التاريخ من خلال تخطي الفوارق العقائدية والعرقية، وجمعت على امتدادها التاريخي بين مكونات عدة، واستوعبت في تفاصيلها كل الثقافات الوافدة التي تعاقبت عليها لتنصهر داخل بوتقة الخصوصية المصرية، مانحة إياها تفردها الذي جعلها عصية على الاختزال أو القسمة ،مهما كانت قوة الضغط.
اقترب الدكتور لويس عوض من هذه الرؤية، إذ ذهب إلى أن الهوية المصرية تتشكل من خليط متجانس وطبقات حضارية متتالية، الفرعونية هي قاعدتها الراسخة التي استندت إليها حضارات متعاقبة: يونانية، ورومانية، وقبطية، ثم إسلامية فعربية فأوروبية ،امتزجت هذه العناصر كلها في سبيكة فريدة متناغمة، ترتكز على ماضٍ مصر الفرعوني العريق، وهذا التنوع كان هو سر تمايزها الفريد.
وجاء التباين العقائدي ليضفي ملمحًا آخر أكثر تمييزًا في الحالة المصرية، تنوع بين المسيحية والإسلام، وكل منهما تعاقب على مصر ولكنه تشكّل وفقًا للهوى والهوية المصري.
وكانت كلمة السر وفقًا لرؤية الدكتور طه حسين في مؤلفه الأبرز مستقبل الثقافة المصرية ، والتي ضمنت حفاظ الهوية المصرية على تماسكها بمفردات فريدة، هي قدرتها على إعادة إنتاج ذاتها داخليًا، فهو يرى أن الخصوصية المصرية ظلت مرنة مستقلة ، تتكيف مع معطياتها دون أن يتمكن أحد من بلورتها أو صياغيتها, هذا التراث الأصيل بحسب عميد الأدب العربي، لم ينحرف أبدًا من كونه نصًا مقدسًا خالدًا إلى أداة أو مطية تُستغل
بينما يؤكد الدكتور ميلاد حنا في مؤلفه الأعمدة السبعة للشخصية المصرية، أن تنوع انتماءات الشخصية المصرية منحها سحراً خاصاً وتميزاً فريداً يمزج بين عبق التاريخ وسحر الجغرافيا.
فعلي الصعيد التاريخي، تعاقبت على مصر أربع حضارات مختلفة في طبيعتها وتوجهاتها العقائدية؛ ومع ذلك ظل الانتماء الأصيل للحضارة الفرعونية الأم، التي كانت بمثابة الحاضنة لكل ما تلاها من حضارات.
هذا التنوع لم يقتصر على الزمان، فقد كان لجغرافية المكان تأثير بالغ ، حيث ارتكزت الشخصية المصرية على ثلاثة أعمدة جغرافية رئيسية: البعد العربي الذي تتبوأ منه مصر مكان القلب النابض للأمة العربية ، والانتماء المتوسطي بفضل إطلالتها الساحرة على البحر ، والعمق الأفريقي كجزء لا يتجزأ من القارة الأم الحاضنة .
هذه الأعمدة السبعة الأربعة التاريخية والثلاثة الجغرافية ، كما يراها الدكتور حنا، ﻤوﺠودة داﺨﻝ ﻛﻝ منا ﺒدرﺠﺎت ﻤﺘﻔﺎوﺘﺔ تختلف باختلاف الرؤى والاﻨﺘﻤﺎءات، فلكل منا ذاتيته وخصوصيته المتفردة وانتمائه الديني والأيدلوجي التي قد تقترب كثيرا أو تبتعد قليلا بتغير المراحل والنشأة والظروف اﻠﻤﺠتمعية ، لكنها تظل في إطار أرضية مشتركة حاضنة لكل هذه التباينات والمقاربات و هذه الأعمدة، وإن لم تتساوَ في القدر، تظل مسيطرة على التركيبة الجينية لكل مصري، مكونة جوهر الهوية المصرية الأصيلة، والتي تجلت بوضوح مؤخراً في احتفالات المتحف المصري الكبير.