الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. أيمن يوسف يكتب: مغامرة المقص الجيني.. المناعة البكتيرية على طاولة نوبل (1)

د. أيمن يوسف
د. أيمن يوسف

لا تحمل مغامرة العلم نشوى الوصول والمعرفة فقط، بل قد تقود الى اكتشافات لم يكن مخططا لها لتقود تلك الصدفة العلمية الى منصة جائزة نوبل، وتتحول تلك المغامرة الى فرصة جديدة لملايين البشر المتألمين أصحاب الأمراض المزمنة والحالات المستعصية عن التعافي بالبرتوكولات التقليدية، علاوة على ما تمنحه تلك المغامرة من قدرة على المساس بكافة نواحي الحياة، بهذا حصلت كلا من الفرنسية ايمانويل شاربينتييه مديرة وحدة ماكس بلانك لعلوم مسببات الأمراض في برلين، والأمريكية جينيفر دودنا من جامعة كاليفورنيا، بيركيلي- الولايات المتحدة الأمريكية على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2020 مناصفة لتطويرهما "المقص الجيني" او تقنية كريسبر- كاس9، التقنية التي أحدثت ثورة في علوم الهندسة الوراثية والتي امتدت تطبيقاتها في مجالات الطب والزراعة ومكافحة الآفات وعلوم الأجنة والأحياء الدقيقة، وأدت تطبيقاتها ثورة علمية في غضون ثمان سنوات فقط منذ أن نشر هذا البحث في مجلة ساينس عام 2012.

تقنية كريسبر- كاس9 أو المقص الجيني أتت عندما كان الشغف يتوالى بدراسة الجهاز المناعي لبكتريا المكورة العقدية المقيحة من أجل تطوير جيل جديد من المضادات الحيوية، كانت ايمانويل شاربنتته شريكة جينفر دودنا في جائزة نوبل للكيمياء 2020 قد ركزت قبل حصولها على الجائزة بعشرين عاما على تلك البكتريا التي تصيب ملايين الأشخاص كل عام بعد أن وصفت بآكل لحوم البشر نظرا لما تسببه من أعراض واسعة بدءا من اعراض الإلتهاب الخفيفة وصولا الى تعفن الدم وتحطيم أنسجة الجسم الرغوة، توصلت الدراسة الى ما لم يكن متوقعا في اكتشاف التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد، والتي عرفت اختصارا بشريط الحمض النووي "كريسبر"، واتضح أن للبكتريا جهاز مناعي قديم يمتلك حمضا نوويا يتماهى والحمض النووي للفيروسات التي تهاجم تلك البكتريا، في دلالة الى قدرة هذه التقنية المناعية من قص الحمض النووي للفيروس وطبعه  في الذاكرة الوراثية لمناعة البكتريا، فيما كانت جينفر دودنا يتمحور عملها منذ العام 2006 حول الحمض النووي الريبي ولها مشاريعها الرائدة في علوم الجينات الى ان توصلت الى اكثر قوانين الوراثة والحمض النووي اثارة وهو تداخل الحمض النووي الريبي.

باكتشاف شاربنتييه لجزئ trans-activating crisper- RNA التي تستخدمه البكتريا لحماية نفسها عن طريق شطر الحمض النووي الفيروسي اجتمع التعاون بينها وبين جينفر دودنا في عام 2011 في مجاليهما (البكتريا المسببة للأمرض وتداخل الحمض النووي الريبي) وتوصلا الى تكنولوجيا برمجة الشريط النووي كريسبر( آلية الدفاع الموجودة في الحمض الننوي للبكتريا) مع انزيم كاس9 الذي يقوم بقص أي جزء من الحمض النووي المستهدف، وبالتالي فصله او عزله او تعديله او الإضافة إلى المادة الوراثية للكائنات الحية من نبات او حيوان او انسان او حتى الكائنات الدقيقة.

شكل هذا المقص أداة ثورية في علوم الاحياء منذ العام 2012 وحتى الان نظرا لانخفاض التكلفة وسهولة استخدام التقنية، وتوسعت تطبيقات هذه التقنية في أبحاث انشاء سلالات من الزراعات المقاومة للآفات والمحسنة في القيمة الغذائية، وساهمت في علاج اشد أنواع السرطانات مقاومة للعلاج الكيميائي وكذلك امراض كالتليف الكيسي والعمى وكثير من الامراض الوراثية، وباتت مغامرات أخرى في تعديلات وراثية على الأجنة بدأت من الصين بعد ان أعلن عالم الأحياء الصيني "هي جيانكوي" في 2018 عن ولادة أول توءمان معدلان وراثيا في العالم مستخدما تقنية كريسبر- كاس9، والتي حوكم فيها بالسجن ثلاث سنوات نظرا لعدم شرعية وأخلاقية هذا الاجراء، فيما أعلنت وكالة الانباء الصينية شينخوا لاحقا عن ثالث ولادة لطفل معدل جينيا وبنفس تلك التقنية. من أبسط وأدق الأنظمة البيولوجية في أبسط الكائنات الحية (البكتريا) أتت فتوحات علمية شكلت نقلة نوعية في الطب والزراعة والوراثة وعلوم الحياء والأجنة.