الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نهال علام تكتب: عالم بلا إعلام !

نهال علام
نهال علام

"قرب جرب.. هنا مش بنهرج.. الدنيا سيرك واللي ما يشتري يتفرج"، هكذا كان يروج القائمون على السيرك لبضاعتهم، التي تتمثل في الفرجة على الفنون التي ستخرج من جعبتهم، رقص وغناء وأكروبات وخدع، والجمهور يدفع ليُظهِر السحرة كل البدع، التي تفتن من يشاهدها مهما كان جدع، ومهما تكررت وأينما ألقوها سحروا أعين الناس وجاءوا بسحر عظيم.

سحرة موسى.. هم أول الحكايات التي وصلت إلينا عن كيف تجذب أعين الناس، فتتسلل لوجدانهم.. تملك إحساسهم ومن ثم تسيطر على تفكيرهم، تأسر ألبابهم فتؤثر على يقينهم ثم سلوكهم وتصبح قِبلة وعيهم وصوت ضميرهم ومرجع قراراتهم، وتملك مفاتيح فرحهم وقرحهم، وإذا استدعى الأمر يصبح مِلك يمين الساحرين هدؤ وصخب المشاهدين.

ومضت السنون، وتطورت الفنون وتمادى المجون وازداد اتساع العيون، وارتفع سقف الظنون ومعها التوقعات والتهيئات والأمنيات والرغبات التي لامست المستحيلات، وكل ذلك من أجل المعلومة وبعض فضول، وبين طياتهم مسحة ملل تشوب العقول ويتسربل بعضها ليتساقط في النفوس، لذا على من يُعلِم أن يَعلَم أن عليه صُنع اللغز وحل الفزورة، أي أن يقدم المعلومة والحقيقة والتسلية وسط جماهير لم تعُد قنوعَة.

ذات يوم بعيد كان هذا الرجل البسيط ذو الطبلة والجلباب المهترئ واللسان الفصيح، أكثر حظاً من نجوم اليوم في الاستديوهات وشموس الشاشات وملوك الإعلانات، لأن صاحب الطبلة كان محتكرا للسبق والخبر، وهو الوحيد الذي يمتلك المعلومة والأمين على كل التفاصيل والرجل الأهم في أي ظرف دقيق، لا يضاهيه أهمية إلا ذلك العلّامة الذي لم يُحصِل في الدراسة أي علامَة، إلا فَك الخط فيصبح قادراً أن يقرأ الخبر بأمانة، وذلك القدر اليسير من التعلُم هو جواز المرور الأثير لرب العمل الجاهل ولكن الحريص على أن يكون مستنيرا .

ومن طبلة الأزقة للإذاعات الأهلية في الحارات، وحتى الأقمار الصناعية التي ملأت الفضاءات تاريخ طويل، كله صولات وجولات ومحطات تاريخية وتلفزيونية وفضائية، تطورت تحت مسمى الإعلام، وطورت معها جمهور نهم للمعرفة لا يعرف الشبع المعلوماتي ولا المغفرة، إذا تلاعبت به وفكرت أن تمنحه معلومة مملة أو ناقصة.

وهكذا احتل الإعلام أهمية في ملامح العالم السياسية، بل وتشكيل المعالِم الجيوسياسية وهذا لا يحتاج لدليل ولا برهان… ولكن ماذا لو أصبح العالم بلا إعلام!


من هذا السؤال انطلقت النسخة الثانية من منتدى مصر للإعلام، على مدار يومين وقرابة السبعين جلسة وورشة عمل، كان الهدف هو البحث عن إجابة السؤال، وتقديم حلول وأفكار تحول دون الوصول لتلك الفرضية المُقبضة بأيادي وشغف على صناعة المهنة قابضة.

وإن كان بعد الظن إثم، فبعضه الآخر حدس مكلل بحدث مدعوماً بالبراهين، وما حدث هو ظهور ما أسماه البعض الإعلام البديل الذي سطع نجمه فخشي البعض أن يغرب قمر الإعلام الكلاسيكي الأصيل، ولكن هذا منطق يرفضه قلبي وإن تقدم عقلي بحجة وراء حجة أن آفة الزمن هو التغيير!

حلقة في سلسلة، والبداية هي النفس الثائرة، التواقة لكل الأحداث السائرة، والبدائل المغايرة، ولكنها سنة الحياة الحائرة أن تظل الدوائر دائرة، والتغيير يعقبه تطوير لتظل سبل الكون سائرة، لذا فالإعلام بشكله التقليدي سيظل ويجب أن يبقى ولا يفل، بل الحفاظ على ملامحه أمر مهم، وتطويره مع حفظ هويته شئ مُلِح، وأي مستحدثات تنافسية هي في تفصيلها مستجدات تكاملية، ستقاوم الزمن لزمن، ولكن لنكن واقعيين لا يوجد ما يمكن أن يقاوم لآخر الزمن، وإلا لظلت المسلة والقادوم وسيلة الكتابة لليوم، ولصارت الورقة والقلم بدعة تفتقر للأصالة والأدب.

ومن أبرز جلسات المنتدى الجلسة الافتتاحية التي ناقشت بعمق التغطية الإخبارية تحت نيران القصف وضجيج المدفعية، تزامناً مع ما يحدث في غزة من أحداث لا إنسانية وعدوان غاشم وممارسات لا أخلاقية، سقط على أثرها لتلك اللحظة قرابة الثمانين صحفيا، كما تم استهداف عائلات كاملة لصحفيين آخرين كعقاب مستحق جراء ما جنت أيديهم من توثيق صرخات الأمهات على أشلاء الأبناء، وأنين الألم على اقتلاع أشجار الزيتون والحياة من العيون.

وكانت الجلسة كاشفة لبعض الجوانب المجحفة في السرديات الدولية والعالمية عن تلك المشاهد التي تدمي قلب الحجر ولم تحرك البشر المتشدقين بحقوق الإنسان، وارضاءً لضمائرهم اعتبروا الشعب الفلسطيني كائنات ليست بشرية، حفنة من البرابرة والمعتدين وقتلة باسم الدين، لينتصر القانون العِصابي وليمُت من يموت، وليعيش الإعلام حراً منزهاً، موضوعياً وحيادياً مهما كانت الحقائق مبتورة ودموية، والادعاءات عكسية.

وهنا فرض السؤال ذاته… هل الإعلام بالفعل يجب أن يكون كذلك! وما هو المعيار لذلك! قتيل أم شهيد، عدوان أم حرب، ارتقى أم قتل، مقاومة شعبية أم فصائل إرهابية!
كيف يضبط المصطلح، على ما العقل الجمعي عليه اصطلح أم ما يمليه الضمير وصَلَح!
وفي النهاية الجواب واضح، فالواقع له وجهان، وجه الحق والاخر وجه الاستحقاق، لذا كل يروي روايته ويدافع عن سرديته.

وبعيداً عن أطراف النزاع، فالمتلقِي حول العالم يبحث عن رواية مُحكمة المعالِم، وصاحب السبق سيصبح هو ذا الحق، والكذبة المحبوكة قد تقضي على الحقيقة المذبوحة، لذا لا لوم ولا عتب على عالم يدافع عن مصالحه ساحقاً كل القيم الإنسانية فالمجد كل المجد للمرجعية الأيديولوجية!

وإذا اشتقنا للحق فيجب أن نعترف بالحقيقة، وذلك ليس فقط لأنها فضيلة ولكن هنا قد تكون شهادة بريئة، أنه لولا السلسلة الوليدة في طوق الإعلام أو ما يطلق عليه الإعلام الجديد، لظلت القضية الفلسطينية تنزف على مفارق غزة في صمت ومع ارتفاع وتيرة الضحايا المضطردة ربما كنا سنسمع بعض الهمهمة.

فالإعلام الخبري لم يستطع أن يحرك ساكنًا للوعي المجتمعي الغربي، وسائل التواصل الاجتماعي هي من جيشت المشاعر وشكلت الرأي العام المجتمعي الذي لا يمكن أن ننكر أنه حرك قادة الدول، وبالطبع لا يمكن أن نغفل دور القيادة المصرية في صنع مسارات الهدنة وسبل التهدئة، لكن مواقع التواصل الاجتماعي لعبت دوراً في التهيئة، وصناعة اتجاه شعبي لا يمكن غض البصر عن اسهاماته في التعبئة.

آفة الحياة التطور ولعبة الزمن التغيير، وعلى المرء أن يستجيب ويلبي ويسير، دون هلع من فقد القديم، فما ينتزعه الواقع يغرسه الحنين، وصناعة الإعلام ستبقى ليوم الدين، تتغير تتحور تتبدل لكنها ماضية بخطى ثابتة، وكلما كانت مدخلاتها من العطاء البشري، كانت مخرجاتها أصدق وأقرب للوجدان الإنساني، فالصوت المعدني والتفكير الآلي لا يسمن ولن يغني من جوع، وستظل الروح تهفو لما فيه روح، والكاميرا ستدور سواء كانت على كرين أو كاميرا موبايل أمامية، ستظل هي التعويذة السحرية وامتداد لسحرة فرعون الذين خروا سجداً لله ولم يمتثلوا لجبروته، وفرعون هذا الزمن هو البحث عن فضيحة من أجل تحقيق المجد للصحيفة، ولكن الإعلام مهنة ستظل نزيهة، والموضوعية والحياد في الحق جريمة.