الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نهال علام تكتب: شاديةُ القلوب

نهال علام
نهال علام

الخميس وما أدراك ما الخميس لطالب اجتهد من الجمعة لظهيرة الونيس، وحديثي عن طالب مرّ عليه عدة أجيال والكثير من التداعيات الزمنية والتحولات المصيرية، ولا أتجه بحديثي لطلبة تلك الأيام الذين لا يعلمون الفرق بين ثلاثائهم  وخميسهم، وربما ذكرت تلك الذكريات في العديد من المناسبات فهي الرفيقة الرقيقة التي تطبب تحديات الحياة القاسية القبيحة.

امتلأت ذكريات الخميس بصناع البهجة والضحكة، ودعاة الحكمة ورواد الواقعية في أفلام الظهيرة وسهرة ليلة الجمعة الأثيرة على مسرحية من العيار الثقيل، تلونت حياتنا بضحكات إسماعيل ياسين وخفة دم القصري وزينات صدقي، وأجواء الباشوات التي عشناها مع عظمة زكي رستم، والنصب الشيك على يد ستيفان روستي، واللامنطقية التي نتقبلها بسعة صدر من أجل عيون أغنيات فريد الأطرش العاطفية، وتركيبة عبد السلام النابلسي المتغطرس اللطيف، وغيرهم ممن لن تتسع سطور مجلد من ألف صفحة لنذكر أسمائهم فقط دون حتى أن نكتب حرفاً للتعقيب.

فلكل منا بصمة، وشخصية تميزه كالعصمة ومن لا يلتفت لمواطن قوة شخصيته وتميزها فذلك وصمة، ستحرمه البقاء بعد الرحيل والتواجد عند الفناء، وألا يُذكر اسمه عندما يأتي المساء في جلسات النساء أو عندما ترتفع أيدي الرجال للدعاء بالرحمة وأعينهم صوب السماء.

وبالطبع من فراشات تلك المرحلة كانت شادية، دلوعة الشاشة المصرية والعربية بلا منازع، في زمن كانت فيه سمة الدلع صفة أنثوية جميلة وليست سُبة تدل على أخلاق رقيعة، بل دلالة على تركيبة فريدة وخفة دم وروح وبساطة وتلقائية رفيعة.

إنها فاطمة أحمد شاكر ابنة الشرقية التي ولدت في ١٩٣١ لأسرة مصرية مستورة وبسيطة عاشت في الحلمية، حيث أن والدها كان مهندساً في الخاصة الملكية وأمها تنتمي لأصول تركية، ويبدو أن تلك الأسرة كانت استثنائية في طريقة تفكيرها وتعاملها مع الحياة بصورة غير تقليدية، ففي ذلك الوقت الذي يعود لأكثر من مئة عام، فوالدة شادية السيدة خديجة جائت لمصر تحتمي بها بعد أن توفى زوجها وترك لها طفلتين صغيرتين، فاضطرت للهروب من تركيا التي ولدت وتزوجت بها وبعد وفاة زوجها خشية أن ينتزع أهله منها بناتها، وحلت ضيفة على عائلة شاكر التي زوجتها أحد ابنائها بل وكتب طفلتيها على أسمه وانجب منها ثلاثة أبناء أصغرهم "فتوش" كما اعتادت أن تطلق عليها أمها، أي فاطمة بالتركية.

شادية.. تلك الجميلة التي ظهرت موهبتها الغنائية في سن الخامسة عشر وهي طالبة ولكن تلقتها أيادي العناية المدرسية وصدفة عن طلب وجوه سينمائية، حتى اقتحمت الشاشة الفضية فاقتحمت قلوب الجماهير من باب الحب والدلال والقرب والشقاوة والخفة والغرام على مدى خمس وسبعين عام، وفي هذا الشهر الذي يشهد ميلادها وتسابق القنوات الفضائية على عرض أفلامها، وتعاقب عرضها كان شهادة لاثبات جدارة تتويجها معبودة الجماهير وحبيبة الملايين حتى بعد مرور قرابة الأربع عقود على اعتزالها، وسبع سنوات على رحيلها، لذا طرق عقلي سؤال طرأ من شبابيك ابداعها، هل في جيلنا فنان سيذكره الجمهور بعد أن تقترب مسيرته من المئوية أو حتى نصفها!

ولا أدري أهي صدفة التصقت بها أم كان ذلك اختيارها أن تكون غالبية أعمالها بميزان العدل، الخير الذي ينتصر على الشر، الحب الذي يسود، والظلم الذي يذهب ولايعود، والمخطئ الذي يتوب والعاصي الذي يهتدي ويعتذر وينوب، شادية من الفنانات القليلات اللواتي جسدت كل الأدوار الإنسانية والطبقات الاجتماعية لكن ربما لم نراها في أعمال تاريخية وذلك ليس ذنبها بل ما اتسمت به تلك الفترة الزمنية بعد سقوط فيلم الناصر صلاح الدين تجاريا احجم المنتجون عن هذا النوع الشائك من الانتاج العالي التكلفة والمنخفض الإيرادات.

أحببنا الدلوعة صدقاً لذا عندما غنت يا حبيبتي يا مصر صارت أيقونة وطنية، تأتي في المنزلة الأقرب للنشيد الجمهوري، وعندما انتفضت خلجاتها مرددة جه حبيبي وخد بأيدي...قلت له أمرك ياسيدي صدقناها وأحترمنا رغبتها في الاعتزال والانعزال.

مسيرة طويلة تجاوزت ١١٢فيلم وعشر مسلسلات إذاعية ومسرحية واحدة، منهم ستة أفلام في قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، و٣٢ فيلم مع چان السينما المصرية كمال الشناوي الذي تزوج أختها من والدتها السيدة عفاف شاكر.

لم تشارك شادية في مسلسلات درامية على الشاشة التلفزيونية، ربما ذلك بسبب أن توقيت اعتزالها جاء في ذروة انتعاش الدراما التلفزيونية وتراجع السينما وربما كان ذلك التراجع المتوقع في بساط السينما من دوافع قرار اعتزالها، فتلك التباديل والتوافيق لايتاح للبعض التوائم معها.

وقبل اعتزال شادية كانت هديتها الكبرى لجماهيرها العريضة مسرحيتها الوحيدة، والتي جسدت كل الفنون المسرحية من التراچيديا للفكاهة المنكهة بالغناء والاستعراض، الموسيقى والإضاءة التي تم توظيفها بإبداع، الديكورات والملابس التي نجحت في نقل المتفرج عبر آلة الزمان لعتبة قسم اللبان، في تلك المسرحية العبقرية التي تمتد مدة عرضها لست ساعات ستكتشف شادية على حقيقتها، جميلة الشكل رقيقة الصوت، بالفعل دلوعة دون أدنى مجهود، تشعر بحنيتها على من حولها بالرغم من إنها تجسد سفاحة ولكنها حلوة كالتفاحة الطازجة.

لذا ستظل تلك المسرحية علامة في تاريخ المسرح المصري على وجه العموم وفي ذاكرتي على سبيل الخصوص، أذكر وأنا طفلة إنني قمت بتقليد شادية في مشهد البداية بعد أن حيت الجمهور وجاءت على سيرة الهبلة أم بدوي فوصفتها ( يا قيحة يا تلقيحة ياللي الشيطان يقولك يا قبيحة) ويبدو أنني اندمجت وتقمصت وشخصت فما كان من أمي إلا أن عاقبتني بالحرمان أسبوع من مشاهدة التلفزيون، ولا أدري رد فعلها لو قمت بتقليد مشهد إجهازها بالقماشة المبلولة على الخالة آمونة!

مسيرة بدأتها سنة ١٩٤٧ بفيلم أزهار وأشواك واختتمتها عام ١٩٨٤ بفيلم لا تسألني من أنا، ومن المفارقات اللطيفة عندما نظمت مسابقة لاختيار مجموعة من الوجوه الجديدة للمشاركة في فيلم أزهار وأشواك وتقدمت مجموعة من الفتيات من بينهن شادية التي اصطحبت معها إحدى صديقاتها لتؤنسها في طريقها وأثناء الاختبار، وما كانت تلك الصديقة إلا هند رستم التي أعجب بها المخرج حلمي رفلة حين شاهدها، وأعطاها دوراً صغيراً عبارة عن جملة واحدة في الفيلم. 

ومن الدروس المستفادة في هذا الفيلم عندما رفضت سناء سميح إحدى بطلات العمل الجلوس بجوار شادية في حفل الافتتاح الخاص بالفيلم مما أصاب الأخيرة بالإحراج والحزن، ولكن الدنيا دول فتمر السنين ويأفل نجم سناء ويسطع نجم ست البنات التي اختارت أسمها الفني بنفسها فكانت شادية للدلال والأغنيات.

عشنا مع شادية لحظات وعمر وذكريات من السعادة والهنا، وإن كانت شادية التي اسعدتنا بداخلها جرح غائر لاشتياقها للأمومة وبعد ثلاث زيجات من عماد حمدي ومهندس مدني وصلاح ذو الفقار الذي لم تتزوج بعده، لم يرزقها الله بمن تهمس له سيد الحبايب يا ضنايا أنت، لذا فلنتذكرها في دعواتنا بقدر ما أضحكتنا وأبكتنا وأسعدتنا وألهبت مشاعرنا الوطنية والعاطفية.

شادية تجسيد لتاريخ مصر الحديث فلقد بدأت حياتها الفنية في عهد الملك فاروق وتوفت في عهد الرئيس السيسي الذي زارها في مستشفى الجلاء أثناء وعكتها الصحية الأخيرة، وفي كل عهد هي ثابتة على ضحكتها وعفويتها ووطنيتها، قال عنها نجيب محفوظ أنها فتاة الأحلام لأي شاب وفي رأيي أنها حلم اليقظة لكل فتاة أن تتشبه برقتها وخفة ظلها.

وسيذكر لها التاريخ أنها محبوبة من اليابانيين كما المصريين والدليل النجاح الباهر للفيلم المصري الياباني على ضفاف النيل وترجمة فيلم شئ من الخوف بعد ذلك لليابانية وعرضه على شاشاتهم السينمائية. 

رحم الله الجميع ومن نعمه العظيمة أن الجسد فقط هو الذي يرحل، أما الروح والتواجد والذكرى فهي رهن عملك وشغفك وإيمانك بما تقدم ليومك وحياتك، وكما قالت الحلوة إن راح منك يا عين حيروح من قلبي فين، فليس كل غائب ذائب.. فالبعض عن عشقهم حِلف القلب ما هو تائب.