في مشهد يذكرنا بسيناريو "يالطا" عام 1945، حيث تقاسم ستالين وروزفلت وتشرشل العالم خلف ظهر الشعوب، ها هو ترامب يجدد اللعبة مع بوتين في ألاسكا. الفارق هذه المرة أن أوروبا ليست شريكًا، بل ضحية تساق إلى الذبح بدم بارد. اللقاء لم يكن مجرد قمة دبلوماسية، بل كان إعلانًا رسميًا عن موت النظام الليبرالي العالمي، وولادة عصر جديد تحكمه المصالح العارية، حيث تباع المبادئ في سوق النخاسة، وتشترى الدول بأسعار زهيدة .
ترامب، ببراجماتية تاجر العقارات الذي يعرف كيف يربح الصفقة، قرر أن أوكرانيا لم تعد تستحق التضحية بالدولار. فلماذا تحارب أمريكا حتى آخر جندي أوكراني بينما يمكنها اقتسام الكعكة مع روسيا؟ الأرقام لا تكذب: حجم التبادل التجاري بين واشنطن وموسكو انخفض من 36 مليار دولار عام 2021 إلى 3.5 مليار فقط في 2024 . هذه الخسارة لم تعد تطاق، خاصة مع احتياجات أمريكا للمعادن النادرة التي تختزنها الأراضي الأوكرانية المحتلة. ترامب يعرف أن الصين تحتكر 80% من هذه السوق، وأن أوكرانيا قد تكون بديلًا - لكن فقط إذا اتفق مع بوتين على تقاسم الغنائم .
أما بوتين، فلم يحلم يومًا بانتصارٍ دبلوماسيٍ بهذا البهاء: عودة مهيبة إلى الساحة الدولية بعد سنوات من العزلة، مصافحة ترامب في قلب أمريكا، وجولة في "الليموزين الرئاسي" كأنه زعيم عالمي شرعي وليس مجرم حرب ملاحق بالمحكمة الجنائية . الأهم من ذلك، أنه حصل على هدية ثمينة: الوقت. فبينما تتدحرج دباباته في دونباس، يشتري بوتين أسابيع إضافية لتحقيق مكاسب جديدة، بينما ترامب يغني له أغنية "التسوية السلمية" .
أوروبا: عجز مخجل.. وغضب بلا أسنان
لو كان التاريخ يكتب بالسخرية، لكانت هذه الفقرة عنوانها: "أوروبا تكتشف أنها ليست سوى دمية في يد أمريكا". القادة الأوروبيون - من ماكرون إلى ميرتس - وقفوا كالتماثيل في مؤتمرهم الصحفي بعد القمة، يرددون كالببغاوات: "نرحب بجهود السلام"، بينما يعرفون أن اللعبة قد اُختتِمت دونهم . البيان الأوروبي المشترك كان أشبه بنعي ذاتي، اعترافًا بأن القارة العجوز لم تعد قادرة حتى على فرض رؤيتها لأزمتها الخاصة.
المفارقة الأكثر إيلامًا هي أن أوروبا، التي ضحّت باقتصادها في العقوبات على روسيا، تكتشف فجأة أن حليفها الأمريكي يستعد لصفقة مع العدو. ترامب صرحها بلا مواربة: "يجب أن نقلق من الهجرة أكثر من بوتين" . رسالته واضحة: المصالح الأمريكية أولًا، حتى لو اضطر لتقديم أوكرانيا على طبق من ذهب لموسكو.
لم يكن مشهدًا عابرًا أن يستبعد زيلينسكي من القمة، ثم ينادى لاحقًا كـ"ضيف شرف" في البيت الأبيض. الرسالة كانت واضحة: أنت لم تعد لاعبًا، بل ورقة مساومة. ترامب لم يتردد في إلقاء المسئولية عليه: "على أوكرانيا أن توافق على الصفقة" . كأنه يقول: "إما أن تتنازل عن الأرض، أو نتركك لمصيرك".
حتى التهديدات الأمريكية بـ"عواقب وخيمة" إذا لم يتوقف بوتين عن الحرب، تبخرت كالدخان. بدلًا من ذلك، سمعنا ترامب يهمس: "ربما نلتقي في موسكو القادمة" . الزعيم الأوكراني الذي حوّله الغرب إلى أيقونة للمقاومة، ها هو يدفع إلى زاوية الانتحار الوطني: التنازل أو الإبادة.
نظام عالمي جديد؟ لا.. فقط فوضى أكثر دموية
أكبر كذبة يروج لها اليوم هي أننا نعيش انتقالًا لنظام عالمي جديد. الحقيقة أننا نعيش انهيارًا بلا بديل. المحكمة الجنائية الدولية؟ بوتين سخر منها باختيار ألاسكا - حيث لا سلطة للمحكمة . الأمم المتحدة؟ غائبة كالمعتاد. القيم الليبرالية؟ ترامب مزقها بإعلانه أن "القوة هي القانون الوحيد".
ما حدث في ألاسكا ليس مجرد لقاء بين رئيسين، بل إعلان وفاة الوهم. الوهم بأن القانون يحكم العالم. الوهم بأن الضعيف يمكن أن ينصر نفسه بالمبادئ. الوهم بأن أوروبا ما زالت قوة عظمى. السؤال الآن: هل ستنهض أوروبا من سباتها؟ هل ستمتلك الشجاعة لبناء جيشها الخاص، بعيدًا عن الناتو؟ أم ستظل تتوسل إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي باعتها في وضح النهار؟
الأيام القادمة ستكشف أن الخيانة الكبرى لم تكن من بوتين، بل من الذين باعوا حلفاءهم بأبخس الأثمان. والعالم الجديد - إن ولد - سيكون أكثر قسوة مما نتخيل. فكما قال ميكافيلي "السياسة لا مكان فيها للضعفاء."
عبد السلام فاروق يكتب: عالم بلا أقنعة!
