قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

مصطفى الشيمي يكتب: ليل

مصطفى الشيمي
مصطفى الشيمي

في العربة الأخيرة، كان الليل يمدّ ستائره على الزجاج. القطار يندفع في صمتٍ ثقيل، والوجوه نائمة أو غارقة في تعبها، إلا هو.

يسند رأسه إلى النافذة الباردة، ويراقب أضواء متفرقة تمرّ سريعًا ثم تنطفئ، كأنها إشارات غامضة لا يملك الوقت لقراءتها.

يمد يده إلى جيبه، يفتش عن شيء يبدّد هذا الفراغ: سيجارة، ورقة، حتى كلمة مؤجلة. فلا يجد سوى أصابعه المرتعشة.
يعود ليستمع من جديد، فيكتشف أن الأصوات كلها تختلط: ارتطام العجلات، خفقان قلبه، والهمسات البعيدة من مقعدٍ مجهول. كلها تبدو نغمًا واحدًا، لكنه نغم بلا بداية ولا نهاية.

يمرّ مفتش التذاكر ببطء، يضيء مصباحه الصغير في وجوه النائمين.
يتوقف عنده ويسأله: "تذكرتك… إلى أين؟"
يناوله التذكرة في صمت، ثم يسكت طويلًا.
فهو لا يعرف على الحقيقة أين يذهب، ولا أي مدينة تنتظره.

بعد أن يبتعد المفتش، يشدّ معطفه على كتفيه، يعيد ترتيب طياته كأنما يحتمي من شيء أبرد من الهواء.
وفجأة يتسلل صوت شباك مهتزّ، يتحرك من ضغط الريح كلما اندفع القطار. كان الصوت واهنًا، متكررًا، كأنه تنفّس خفيّ للزجاج المتعب.

الليل يضغط أكثر، والقطار يمضي كأنه لا يعرف وجهة.
وفي داخله، تنعقد الأسئلة:
هل يسافر المرء ليلتقي؟
أم يسافر كي يهرب؟
أم لأن القطارات تمضي وحدها، فنضطر أن نمضي معها؟

أغلق عينيه للحظة. وحين فتحهما، لمح انعكاس وجهه في الزجاج، غريبًا، مشوشًا، كأنه وجه رجلٍ لم يعد يعرف مَن يكون.
ومن خلف ذلك الوجه العابر، مرّت صورة امرأة لا يعرف إن كانت ذكرى أم خيالًا، ثم ذابت مثل ضوء بعيد ... لكنه ارتبك أكثر حين أحسّ للحظة كتفًا يلامس كتفه، وصوتًا وديعًا يحدّثه بطمأنينة قديمة.
التفت سريعًا، فلم يجد سوى مقعدٍ فارغ، وصدى يتلاشى في ظلمة العربة.

أدار بصره عن الزجاج، وأسند رأسه إلى المقعد، محاولًا أن ينام. لكن النوم لم يجيء؛ بل ازداد الصخب داخله، كأن القطار صار يتحرك في صدره لا على القضبان.
ومع كل ارتطام جديد للعجلات، عاد يلاحقه صدى جملة لم تكتمل، وعدٌ هشّ منذ البداية، وابتسامة انطفأت قبل أن تولد.

قال لنفسه إنه مجرد مسافر بين مدينتين، لكنه في قرارة قلبه كان يعرف العكس: أنه مسافر بين حياتين، بين ماضٍ يرفض أن ينتهي وحاضرٍ لا يعرف كيف يبدأ.
مدّ يده مرة أخرى إلى النافذة، ضغط بكفّه عليها، فلم يواجهه إلا برودتها القاسية.
شعر وكأن العالم كلّه اختصر نفسه في هذا الزجاج: لا يُعطي ولا يُجيب.

راح يتساءل: هل هذه الغربة التي تملأ العربة جاءت من الخارج؟ أم أنها انبثقت من داخله ثم انسابت على الزجاج؟
إنها تشبه ذاكرة غائمة، تتسع شيئًا فشيئًا حتى تبتلع كل معنى... وكأن تلك الذاكرة نفسها تذكّره بأن القطارات لا تنقل الأجساد وحدها، بل تجرجر الأرواح المرهقة على قضبانها، وتتركها عند محطات لا يعرفها أحد.
ظل ساكنًا، يراقب الظلام وهو يتمدد في الخارج والداخل معًا،حتى لم يعد يعرف إن كان هو الذي يسافر،أم أن الليل هو الذي يسافر به.