العمر ليس أرقامًا تُسجَّل في شهادة الميلاد، ولا سنوات نُحصيها على تقويم الأيام. العمر الحقيقي هو ما يضيء القلب من لحظات صافية، وما يترك أثرًا عميقًا في الذاكرة والوجدان.
قد تكون لحظة حب غمرت الروح بالدفء، أو ضحكة خرجت من القلب فكسرت ثِقل الحياة، أو لقاء غيّر مسار العمر وفتح أمامنا طريقًا لم نكن نراه.
الحياة تمضي، وما يبقى منها ليس الأيام المتشابهة، بل المشاهد القصيرة التي منحتها طعمًا خاصًا ومعنى مختلفًا. السعادة لا تأتي في صورة كبيرة ولا تُختزن في حدث استثنائي ننتظره، بل تكمن في تفاصيل صغيرة: في صباح مشرق هادئ، في يد تمتد لتطمئننا، في كلمة تقدير صادقة، أو نجاح مهما كان بسيطًا يؤكد أننا نسير بخطى ثابتة. إنها ليست وعدًا مؤجلاً، بل اختيار داخلي نمارسه كل يوم، وقدرة على أن نرى الجانب المضيء مهما ثقلت علينا الأعباء.
وفي زمن يزداد قسوته، يصبح أحق الناس بصناعة السعادة هم نحن لأنفسنا أولًا. فلا أحد قادر على أن يمنحنا فرحًا صادقًا إن لم نؤمن أننا نستحقه، ولا أحد يستطيع أن يرسم في قلوبنا سلامًا إن لم نُعِد ترتيب دواخلنا. ثم تأتي دائرة القرب: الأسرة التي هي الحضن الأول، والأصدقاء الحقيقيون الذين يزرعون البهجة بكلمة أو موقف، والشريك الذي يُشاطرنا الحلم والطريق. هؤلاء هم أحق الناس بأن يكونوا صانعي السعادة في حياتنا، لأن حضورهم يعيد إلينا معنى الطمأنينة ويجعل الطريق أكثر احتمالًا.
في رحلتنا، نلتقي بوجوه لا تُحصى. منهم من يمر سريعًا ويترك بصمة لا تزول، ومنهم من يبقى ليكون سندًا دائمًا، ومنهم من يجرح فيعلّمنا القوة، أو يداوي فيزرع فينا أملًا جديدًا. كل إنسان نصادفه يضيف إلى حكايتنا درسًا أو معنى، سواء كان حضوره قصيرًا أو ممتدًا.
الأشخاص الذين نحبهم يجعلون الطريق أجمل وألوانه أبهى، لكن السعادة في جوهرها تبقى مسؤوليتنا . فنحن من نقرر أن نفتح قلوبنا للفرح، بأن نرى الجمال في التفاصيل اليومية، ونصنع لأنفسنا حياة تستحق أن تُعاش بكل ما فيها من تحديات.
وحين نصل إلى آخر الطريق، لن نحسب أعمارنا بعدد السنوات التي مرّت، بل باللحظات التي جعلت لحياتنا معنى. سنستعيد في الذاكرة كيف أحببنا، وكيف ضحكنا، وكيف تركنا في قلوب الآخرين أثرًا طيبًا يذكّرهم بنا بعد الغياب. لذلك، فالعمر له حسابات أخرى؛ حسابات لا تُقاس بالزمن، بل بقدر السعادة التي عشناها، وبالأثر الطيب الذي زرعناه في قلوب من حولنا.