في كل حرب تشنها إسرائيل على الفلسطينيين يتكرر المشهد ذاته: صور الدمار والجثث تنتشر في العالم وفي المقابل يخرج المسؤولون الإسرائيليون يعلنون أن جيشهم هو الأكثر أخلاقية في العالم. هذه الثنائية بين الحقيقة المرئية على الأرض والرواية الرسمية المنكرة تحولت مع الوقت إلى سياسة مدروسة بل إلى ما يشبه فنا دعائيا قائما بذاته تُسخّر له أدوات الدولة والإعلام والثقافة والدبلوماسية.
ما يحدث في غزة منذ أكتوبر ٢٠٢٣ وحتى اليوم يمثل الذروة لهذا الفن، حيث لم يعد الإنكار مجرد رد فعل دفاعي بل استراتيجية مكتملة الأركان هدفها تقويض الحقيقة وإعادة صياغتها في قوالب لغوية وصورية تسعى إلى كسب الرأي العام الدولي وإلى تطبيع العنف داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، لكن هذا الإنكار لم يتوقف عند حدود السياسة والإعلام بل امتد أيضًا إلى الأدب العبري الذي ساهم بدوره في إعادة تشكيل الذاكرة عبر محو الضحية وتحويل الجلاد إلى بطل.
منذ النكبة عام ١٩٤٨ ارتُكبت عشرات المجازر بحق الفلسطينيين من دير ياسين وكفر قاسم إلى صبرا وشاتيلا مرورا بجنين عام ٢٠٠٢، ومع كل مجزرة كان الموقف الإسرائيلي واحدا: إنكار أو تقليل أو قلب للحقائق. في كفر قاسم مثلا وُصفت عمليات قتل القرويين بأنها سوء فهم للتعليمات بينما اعتُبر اجتياح جنين عملية أمنية محدودة. هذا النمط التاريخي يكشف أن الإنكار لم يكن طارئا بل ركيزة من ركائز السياسة الإسرائيلية، فالاعتراف بالجرائم يعني فتح الباب أمام المساءلة القانونية والأخلاقية، وهو ما تهربت منه إسرائيل دائما، ومع تراكم الخبرة الدعائية طورت أدواتها حتى صار الإنكار أشبه بعمل فني متقن يقوم على تقنيات لغوية ونفسية وإعلامية.
تتجنب إسرائيل استخدام كلمات ذات حمولة أخلاقية مثل مجزرة أو جريمة حرب وتستبدلها بعبارات تقنية باردة مثل عملية دقيقة أو استهداف إرهابيين أو أضرار جانبية، وهذا التلاعب ينقل النقاش من ساحة الأخلاق إلى ساحة التكنولوجيا والعمليات العسكرية. كذلك فإن الفلسطيني الذي يُقتل يُقدَّم للعالم لا كضحية بل كمن استُخدم درعا بشريا، بحيث يصبح موت الأطفال نتيجة طبيعية لسلوك الطرف الآخر لا للجندي الذي أطلق الصاروخ. ومع التحكم في الصورة عبر منع الصحفيين الدوليين من دخول غزة وفرض رقابة على الإعلام المحلي تضخ القنوات الرسمية مقاطع مُصقولة لجنود يوزعون الماء أو يساعدون مسنين لتغطية مشاهد الركام والجثث. وفي الوقت نفسه ينشط المتحدثون الرسميون في المحافل الدولية والإعلام الغربي لتكرار خطاب الإنكار بلغة إنجليزية متقنة، بينما أي صوت معارض يُتهم فورًا بمعاداة السامية فيتحول المنتقد إلى مذنب بدلاً من محاسبة الفاعل.
الإنكار وحده لا يكفي لذلك تعمل إسرائيل على بناء رواية كاملة تُسوّق للعالم: جيش منضبط يدافع عن نفسه في مواجهة منظمة إرهابية تستخدم المدنيين كدروع. هذه الرواية تُغذّى باستمرار عبر كبريات وسائل الإعلام الغربية التي تبدأ تقاريرها عادة بعبارة (تقول إسرائيل إن)، وهو ما يمنح الرواية الرسمية وزنا مساويا لشهادات الضحايا. وعلى منصات التواصل الاجتماعي يجري ضخ مقاطع شبابية لجنود يرقصون أو يطبخون أو يلاعبون القطط في محاولة لتلميع صورة تتصدع يوما بعد يوم أمام الصور الحية القادمة من تحت الأنقاض.
الأدب العبري شريك في جريمة الحرب
لكن أخطر ما في الإنكار أنه لم يقف عند حدود السياسة والإعلام بل تسلل إلى الأدب العبري ليصبح شريكاً في صياغة الذاكرة الجمعية على مقاس الدولة. فالكثير من النصوص الأدبية تتعامل مع الجرائم عبر إنكارها أو تحويلها إلى مادة روائية مغايرة. الفلسطيني في هذه النصوص إما غائب تماما أو يظهر كشخصية هامشية بلا ملامح مجرد ظل في الطريق إلى الحلم الصهيوني، بينما الجندي الذي قتل مدنيين يُقدَّم لا كجاني بل كشخص مأزوم يتحمل عبء القرار وكأن معاناته النفسية تعادل حياة الضحايا. المجازر تُحكى كأحداث اضطرارية تفرضها الظروف بينما يتركز الضوء على مأساة المستوطن الذي فقد أمانه أو على صدمة الجندي العائد من الميدان. بهذا الشكل يتحقق محو مزدوج: محو الفلسطيني من الواقع عبر العنف ومحو وجوده من الخيال الأدبي عبر الإنكار. وبذلك يصبح الأدب شريكاً في ماكينة الدعاية، ليس فقط عبر الصمت بل عبر إعادة بناء السردية بحيث تختفي الجريمة من جذورها ويحل محلها خطاب البطولة والتضحية.
فن الإنكار يخاطب الإسرائيليين أنفسهم أيضا، فالمجتمع الذي يرسل أبناءه إلى الحرب يحتاج إلى مبرر أخلاقي ليستمر. لذلك يُقال للجنود إنهم لا يقتلون مدنيين، ويُقال للأهالي إن أبناءهم يحاربون الإرهاب لا الأطفال. الأدب هنا يضيف لمسة أخرى حين يحول القاتل إلى بطل تراجيدي يخوض صراعا داخليا بينما تختفي الضحية من النص. إنها آلية تطبيع جماعية مع العنف سواء في الإعلام أو في الثقافة، تبرر للمجتمع ما يجري وتعيد صياغة الضمير الجمعي.
ورغم كل ذلك تتسع الفجوة بين الخطاب الإسرائيلي والواقع. تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية وثّقت بشكل واضح استهداف المدنيين والبنية التحتية. الفيديوهات القادمة من غزة تعكس الحقيقة بلا تجميل وتُكذّب كل خطاب عن العمليات الدقيقة. حتى داخل الغرب بدأت أصوات أكاديمية وصحفية بارزة تتحدث عن أكبر أزمة أخلاقية تواجه إسرائيل منذ تأسيسها، ومع كل صورة لطفل يُنتشل من تحت الأنقاض يتراجع أثر خطاب الأضرار الجانبية.
الاعتماد المفرط على الإنكار قد يمنح إسرائيل حماية مؤقتة لكنه يترك أثرا مدمّرا على صورتها طويلة المدى. لم تعد تُرى كدولة صغيرة محاطة بالأعداء بل كقوة استعمارية ترتكب جرائم حرب وتعيد إنتاج خطابها عبر الإعلام والأدب معا. وهكذا يصبح الإنكار فنا قصير العمر أشبه ببناء بيت من زجاج في مواجهة عاصفة، قد ينجح في كسب جولة إعلامية هنا أو هناك لكنه لا يستطيع أن يلغي الحقيقة ولا أن يمحو الدم.
في زمن توثق فيه الكاميرات كل شيء وتنتشر الصور بلحظة يصبح الإعلام والأدب معًا عاجزين عن طمس الذاكرة الجمعية للشعوب. السؤال يبقى مفتوحا: هل يمكن للجرائم أن تُمحى من كتب التاريخ حتى لو مُسحت من الروايات والقصص؟ أم أن ذاكرة الأطفال الناجين وصور البيوت المهدمة ستظل أقوى من أي فن للإنكار أو التجميل؟