قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

مصطفى الشيمي يكتب: قهوة سادة

مصطفى لشيمي
مصطفى لشيمي

كنّا دائمًا نختار آخر طاولة في الطابق العلوي من هذا المقهى؛ طاولة تشبه ركنًا في القلب، نعرف طريقها حتى لو أغمضنا أعيننا. كان المكان يعرفنا كما يعرف رائحة قهوته . يعرف ضحكاتنا وصمتنا، خلافاتنا ومصالحاتنا، كم مرة جلسنا هنا نخطط لمستقبل أو نضمد جرحًا.

اليوم جلستُ معها من جديد. كان بخار القهوة يتصاعد ببطء، كأنه يفتح ستارًا على مسرح صغير. وكلّما انتقلتُ بعيني من طاولة إلى أخرى، ظهر مشهد من حياتنا...

عند الطاولة الأولى، صبيّ يركض إلى أبيه يشتكي من أخته. ابتسمتُ لها، فابتسمت. تذكّرنا ابننا وهو يختبئ خلف ساقيها ويصيح: "هو بدأ!" وكأنّ المقهى يعيد لي فصول الأبوة الأولى

في الطاولة المجاورة، امرأة حامل تمسح على بطنها بحذر، وزوجها يمد يده إليها مطمئنًا. شعرتُ أن المكان نفسه يتذكّر يوم حملت بابننا، يوم كنّا نعدّ كل ركلة منه فرحًا مؤجَّلًا.

وراءنا، شاب يضحك في هاتفه طويلًا. نظرتْ إليّ بنصف عينها وقالت:
"آخر مرة كلّمتني كانوا تسع ثوانٍ... فماذا تغيّر؟"
ضحكتُ قليلًا، لكن السؤال ظلّ معلقًا في صدري حتى اليوم.

وفي زاوية أخرى، شابّان يتبادلان وردة بيضاء بين وردتين حمراوين. همستْ:
"متى أهديتني وردة آخر مرة؟"
فابتلعتُ ابتسامةً ومضغتُ ذنبي بصمت.

وبالقرب من الباب، اندلع شجار بين رجلين. لمحتُ وجهها وهي تتذكّر تلك الحادثة البعيدة، يوم تظاهرت بالصداع ولم تخبرني بما حدث إلا بعد إلحاحي. وقتها جريت أبحث عنه في كل مكان، وما زلت أبحث بعينيّ كلما جئنا إلى هنا.

النادلة مرّت تسألني عمّا أشرب. ابتسمتُ كعادتي وقلت:
"اسألي المدام."
رأيتُ في عينيها تلك اللمعة القديمة قبل أن تبتسم في سرّها.

وقعت عيني على مراهق يلوّح بيده في وجه أمّه. لسع المشهد قلبي. تذكّرتُ أوّل مرّة علا صوته علينا، يوم فهمنا أنّه لم يعد صغيرًا، وأنّ بيته لم يعد حضنه الأول.

وأخيرًا، عند أقصى القاعة، جلس زوجان عجوزان صامتان. شعرتُ أنّهما نحن بعد سنوات قليلة إن لم يعد. مددتُ يدي إلى يدها، وقبضتُ عليها بقوّة. شعرتُ أن قلبي يهدأ للمرة الأولى هذا المساء.

رفعتُ رأسي وطلبتُ فنجانًا ثالثًا، تركته أمام الكرسي الخالي. لم أقل شيئًا، كأنّي أريد أن يشاركنا الرائحة على الأقل. التفتُّ إليها وهمست:
"ربما لا يعود... لكن يمكننا أن نملأ الطاولة بأيدينا نحن الاثنين."

ابتسمتْ، ثم ارتشفت قهوتها ببطء شديد، كأنّها تتذوّق الطعم لأول مرة. عندها أدركتُ أنّ القهوة السادة لا تحتاج سكرًا بقدر ما تحتاج قلبًا يشاركك مرارتها.