قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د.هبة عيد تكتب: لا تعاتب الأقدار فكل منع هو حماية

د. هبة عيد
د. هبة عيد

هناك لحظة يصل إليها الإنسان بعد كثير من السير والتجربة والصمت، يفهم فيها ما لم يكن يفهمه من قبل. يكتشف أن ما ظنه خسارة لم يكن إلا حماية خفية، وما اعتبره ألمًا كان تمهيدًا لطريق جديد، وأن الأقدار وإن بدت غامضة في لحظتها فهي منسوجة بدقة لا تخطئ. لا شيء يحدث عبثًا، ولا تفلت من يد الله تفاصيل العمر مهما ظننا أننا نتحكم بها. نحن فقط نسير بين ما كان وما سيكون، نحمل من الماضي درسًا، ومن الحاضر اختبارًا، ومن المستقبل يقينًا يتشكل ببطء.

الماضي لا يرحل تمامًا، بل يبقى فينا بقدر ما نتعلم منه. تعود ذكرياته بين الحين والآخر لا لتؤلمنا فقط، بل لتذكّرنا بالطريق الذي قطعناه. في علم النفس تُسمى هذه العودة بالعقل العاطفي، حيث تعود الذكريات مصحوبة بمشاعر أكثر من كونها أحداثًا. ليس الهدف أن نهرب من الماضي أو نمحوه، فذلك غير ممكن، بل أن نفهمه حتى لا يعيد نفسه بأشكال أخرى. فمن تصالح مع ماضيه تحرر، ومن دفنه حيًا عاد إليه في صورة قيد داخلي لا يراه إلا حين يتعثر في خطوات الحاضر.

أما الحاضر فهو اللحظة التي نملكها فعلًا، لكنه أكثر زمن نهمله عندما ننشغل بالبكاء على ما مضى أو الخوف مما سيأتي، فنعبر أيامًا كاملة دون أن نعيشها حقًا. ولكن الحقيقة أن الرضا بالحاضر ليس انسحابًا من السعي ولا تبرير للعجز، بل هو وعي عميق بأن ما نملكه الآن هو ما يناسب مرحلة تكويننا الحالية. علينا أن نؤمن بأن لو كان الخير في غير ما نحن عليه الآن، لكان تغيّر منذ زمن. فالرضا لا يعني قبول الألم، بل تقبله حتى نفهم رسالته. والعمل على تغييره إن كان تغييره ممكنًا. فهو شجاعة صامتة لا ضجيج فيها، وهو الباب الأول إلى سلام النفس وطمأنينتها، لأن من رضي بأقدار الله لم يعد يخاف الغد، ولم يعد يحمل همًّا إلا أن يكون في موضع يحبه الله منه.

وعندما  نرفع أعيننا نحو المستقبل،  الذي نحمله كثيراً فوق طاقته من توقعات. ننسى أن المستقبل ليس وعدًا ينتظرنا، بل نتيجة نصنعها من قرارات اليوم. لا أحد يصل إلى ما يتمنى دون طريق، ولا أحد يحصد دون أن يزرع، ولا أحد يخلق مصيره وهو جالس في مكانه. لكن مع ذلك، علينا أن نترك لله مساحة التشكيل؛ فالأماني وحدها لا تكفي، والأسباب وحدها لا تكفي، وإنما يتحقق الخير حين يتلاقى السعي مع القَدَر في نقطة اسمها “الوقت المناسب”.

وحين نتأمل ما نمر به من منع وتأخير وفقد، ندرك أنه لم يكن حرمانًا دائمًا، بل حماية مؤقتة. تأخرت أشياء كنا نظن أن سعادتنا فيها، ولو جاءت في وقتها لكسرتنا. ابتعد أشخاص تخيلنا أننا لا نقدر على العيش بدونهم، فاكتشفنا أن الله أزالهم ليحمينا من ألم أكبر. أُغلقت أبواب بأيدينا عليها دموع، ثم شكرنا الله بعدها لأن تلك الأبواب كانت تؤدي إلى طرق مظلمة. الزمن يكشف، والأقدار ترشد، والقلب حين يهدأ يفهم.

نحن لا نخسر حين نرضى، بل نخسر حين نُقاوم ما لا نستطيع تغييره. من يؤمن بأن كل ما كتبه الله خير، فإنه يعيش مطمئنًا حتى في قلب العاصفة. ليس لأنه لا يشعر بالألم، بل لأنه يعرف أن وراء الألم معنى، ووراء التأخير ترتيب، ووراء كل قدر يد الله. لذلك لا تعاتب الأقدار، فهي ليست ضدك، بل تعمل من أجلك حتى إن لم تفهم الآن. خذ بالأسباب، وامشِ بثبات، واسعَ بصدق، واترك النتيجة لمن يعلم خفايا القلوب.

فالرضا بأقدار الله دواء القلوب المتعبة، والدعاء هو اليد التي تطرق باب السماء لتفتح الأقدار، فلا يمنع القدر إلا الدعاء، ولا يبدّل الحال إلا يقين المؤمن بأن ما عند الله خير دائمًا، وإن تأخر.