قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

مفتي الجمهورية: الفتوى المنضبطة تعزِّز الاستقرار الفكري والثقافي وتحفظ الإرث العلمي والثقافي للأمة

مفتي الجمهورية
مفتي الجمهورية

أكد أ.د. نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم،  أن الفتوى لا تقتصر على شؤون العبادات، بل تمتد لتشمل مختلف مجالات الحياة، إذ يلجأ الناس إليها في مسائل العقيدة والشريعة والسلوك، مبينًا أن الوقائع والأحداث قد تبدو في ظاهرها بعيدة عن الدين، غير أن الفتوى جاءت في أصلها لإصلاح الدين والدنيا معًا من خلال الفهم الرشيد للوحي، مؤكدًا أن للفتوى أهمية كبرى تتصل بالمعاش والمعاد، وتقوم على ركنين: مُفْتٍ ومستفتٍ، بقصد بيان ما ينبغي الإقدام عليه أو الإحجام عنه، والحكم بالحِل والحرمة.

جاء ذلك خلال كلمة فضيلته في  الدورة العلمية الأولى لإعداد  المُفتين من دولة ماليزيا، والتي تقوم عليها وزارة الأوقاف، تحت عنوان: «ترسيخ مفهوم الوسطية وكيفية مواجهة الفكر المتطرف من خلال بناء مهارات تدريبية متقدمة وَفْقَ التجربة المصرية».

وبيّن فضيلته أن المعنى الاصطلاحي للفتوى لا ينفصل عن دلالاتها اللغوية، إذ تقوم على بيان الحكم الشرعي، والكشف عن الغموض، ورفع الإشكال دون إلزام، موضحًا أن المفتي هو الفقيه المؤهل للإجابة عن الاستفسارات، بينما المستفتي هو السائل طالب البيان. وأكد أن الله تعالى هو أول من باشر بيان الأحكام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من قام بهذا المقام الشريف من البشر دون طلب مال أو جاه، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾.

وأشار مفتي الجمهورية إلى خطورة الفتوى، لكونها توقيعًا عن رب العالمين، وهو ما جعل العلماء يتفاوتون فيها بين مكثر ومقل ومتوسط، محذرًا من أن القول فيها بغير مراد الشارع يترتب عليه آثار سيئة على صاحبها وعلى الناس، مستدلًّا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها». وأوضح أن الفتوى انتقلت عبر الصحابة ثم التابعين ثم أئمة المذاهب، وأنها من فروض الكفايات التي لا يتصدر لها إلا من اكتملت لديه الأهلية العلمية.

وأوضح فضيلته أن واجب المستفتين هو السؤال طلبًا للبيان حتى لا يقعوا في الإثم، مستشهدًا بقول الإمام الغزالي بوجوب استفتاء العامي للعلماء والعمل بأقوالهم، محذرًا من الدعوة إلى إلزام العامة بالبحث عن الفتوى بأنفسهم دون أدوات علمية، لما يترتب على ذلك من تعطيل لمصالح الناس. وشدد على أن وظيفة المفتي وظيفة عظيمة، يشترط فيها التكليف والعلم، لأن الإفتاء علم، والقول فيه بغير علم محرم، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.

وذكر مفتي الجمهورية أن من أهم شروط المفتي العدالة والموضوعية وعدم اتباع الهوى، مؤكدًا أن المفتي مطالب باتباع الحق حيث دار، لا حيث تميل الأهواء، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». كما شدد على أهمية الفطنة، والقدرة على التمييز بين الآراء والترجيح بينها، مؤكدًا أن الاجتهاد شرط جوهري للمفتي، وهو بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي وفق منهج علمي منضبط.

وتناول فضيلته آداب المفتي، مؤكدًا ضرورة إخلاص النية، واستحضارها في طلب العلم والفتوى، امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»، مبينًا أن من آداب المفتي كذلك اقتران العلم بالحلم، لما يثمره ذلك من الوقار والصبر والرفق، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾. كما شدد على ضرورة إدراك المفتي لموقعه بين الناس، وتوافر الكفاية العلمية والمادية التي تصونه عن الضغوط والتلون في الفتوى، مشيرًا إلى تجربة الإمام الشافعي في مراعاة أعراف الناس وعاداتهم.

ثم انتقل مفتي الجمهورية إلى المقصد الرئيس، وهو تحقيق الوسطية، موضحًا أن التطرف هو مجاوزة الحد، وينشأ من قراءة النصوص خارج سياقاتها، أو بمعزل عن الإطار الكلي للشريعة، متأثرة بالأهواء والانتماءات الضيقة، مؤكدًا أن الوسطية هي مجانبة طرفي الإفراط والتفريط. وأوضح أن تحقيق الوعي الرشيد بالفتوى يقوم على إدراك قيمة العقل في الإسلام، ورفض تعطيله، مع متابعة النماذج الفكرية المنضبطة.

ولفت فضيلته إلى ما ذكره الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه «التفكير فريضة إسلامية»، مؤكدًا أن القرآن الكريم خاطب العقل بأعلى درجات التكريم، وجعل له دورًا محوريًّا في فهم الدين، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾. وبيَّن أن القياس في حقيقته عمل عقلي منضبط، مستشهدًا بحديث الرجل الذي شكا للنبي صلى الله عليه وسلم ولادة زوجته غلامًا أسود.

ونوه بأن عمل المفتي يقوم على الجمع بين النص والاجتهاد، مشددًا على انتفاء التعارض الحقيقي بين العقل والنقل؛ لأن كليهما حق صادر عن الحق، وأن العقل قائد والدين مدد، ليجتمع النوران فيكونا نورًا على نور. وبيَّن أن العلاقة بين العقل والدين تحكمها دوائر الاختصاص والحاكمية والتكامل، موضحًا أن الإسلام يضع إطارًا أخلاقيًّا منضبطًا للعقل، خاصة في مجالات البحث العلمي.

وأشار مفتي الجمهورية إلى دروس تاريخية لآثار الفتاوى غير المنضبطة، مثل فتاوى منع الاجتهاد في العصر المملوكي، وفتاوى تحريم استخدام المطبعة في الدولة العثمانية، وفتاوى تحريم الاحتفاظ بالآثار في العصر الحديث، مؤكدًا أن الفتوى المنضبطة تعزز التسامح والاعتدال، وتحمي من التكفير والتشدد، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما»، موضحًا أن الفتوى الفاعلة تعتمد على سد الذرائع، وتفعيل الاجتهاد المؤسسي، واحترام العرف باعتباره معيارًا معتبرًا في ضبط الأحكام، مؤكدًا القاعدة الفقهية: «المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا».

واختتم مفتي الجمهورية حديثه بالتأكيد على أن الفتوى، إذا ما وُظِّفت توظيفًا رشيدًا يجمع بين العقل والنقل، ويراعي مقاصد الشريعة والأخلاق والوسطية، فإنها تصبح أداة فاعلة في حماية المجتمع من التطرف والتشدد، وتعزيز الاستقرار الفكري والثقافي، وضمان استمرار نشر العلم والمعرفة، بما يخدم مصلحة الأمة ويرسِّخ قيم الاعتدال والعدالة والسلام.