القضية الفلسطينية والمصالح الأمريكية
لا جدال في أهمية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للمصالح الأمريكية سواء بحكم علاقة التحالف الاستراتيجي التي تربط الولايات المتحدة بالعديد من الأطراف والدول في المنطقة وفي مقدمتهم إسرائيل، أو بحكم حرص الولايات المتحدة الأمريكية على ضمان تدفق موارد الطاقة من المنطقة إلى الدول الكبرى المستهلكة.
أثق تماما في أن الولايات المتحدة الأمريكية تضع منطقة الشرق الأوسط تحت المجهر السياسي، وتخضع أي حراك فيها للتحليل والمراقبة بحيث يصعب الحديث عن غياب أمريكي بدرجة ما عن أحداث المنطقة وتفاصيلها، ومن ثم يصبح من المنطقي القول بأن واشنطن تقف على مفاتيح الحل والعقد في تلك المنطقة، وتدرك تماما مايحقق مصالحها.
على الخلفية السابقة تثور تساؤلات بديهية مثل: هل ترغب الولايات المتحدة في إيجاد تسوية نهائية للقضية الفلسطينية؟ وهل يرى الجانب الأمريكي أن تسوية هذه القضية من خلال صيغة سلام عادل وشامل هى الضامن الحقيقي لتحقق مصالحها الاستراتيجية على المدى البعيد؟
أعتقد أن تحليل الشواهد ربما يشير إلى أن واشنطن تخضع تماما في جهود البحث عن تسوية للجانب الإسرائيلي ولا تمتلك أي رغبة في فرض التسوية العادلة التي تراها، بل ليس من المبالغة القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية لا تمضي في هذه الجزئية تحديدا وراء مصالحها الذاتية بشكل دقيق، فهى تدرك أن استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يصب في مصلحتها كقطب مهيمن على مفاصل النظام العالمي الجديد ومن مصلحته بسط الأمن والسيطرة وتصفية جيوب الاستعمار والاحتلال في العالم، ولكنها لا تمتلك إرادة كافية للضغط على إسرائيل سواء بسبب حسابات السياسة الداخلية الأمريكية وضغوط اللوبي اليهودي ومواءمات الانتخابات الأمريكية، أو لأن إسرائيل نفسها قادرة على تأليب الرأي العام الأمريكي الداخلي ضد البيت الأبيض في حال قرر الأخير تبني مواقف مضادة للمصالح الإسرائيلية.
الواقع يشير إلى أن القضية الفلسطينية هى المحرك الحقيقي لتنظيمات التطرف والإرهاب في الشرق الأوسط، بما توفره من غطاء ايديولوجي لهذه التنظيمات، كما أن هذه القضية هى السبب المباشر في تغذية دعوات العنف والتطرف باعتبارها "لافتة" براقة تستغلها التنظيمات وتجار الدين والسياسة في دغدغة عواطف الشعوب عبر ادعاءات زائفة بالكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وأعتقد أن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية في أن تضغط على إسرائيل وفرض تسوية عادلة وشاملة تضمن مصالح الشعب الفلسطيني وتراعي وضع القدس المحتلة بالنسبة لمئات الملايين من المسلمين في مختلف أرجاء العالم، وبحيث تسحب البساط من تحت أقدام التنظيمات المتطرف التي تقتات على هذه القضية وتتخذ منها غطاءً تمارس من خلاله تجارة الدين والسياسة، وتتسبب في دفع المنطقة بأكملها إلى أتون فوضى سيكون في مقدمة الخاسرين فيها الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل.
لا يعقل أن توافق إسرائيل على العيش في بيئة إقليمية زاخرة بالتنظيمات المتطرفة، ولا يتصور أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية تخطط لإعادة هندسة منطقة الشرق الأوسط عبر وكلاء من الجماعات والتنظيمات المتطرفة!! فالناتج لن يكون سوى خرابا ودمار شاملا تدفع ثمنه شعوب المنطقة جميعها ولن تنجو منه إسرائيل ولا المصالح الأمريكية.
قد يرى بعض المحللين أن الولايات المتحدة الأمريكية تتجه لتقليص اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط بسبب تنامي اعتمادها الذاتي على موارد الطاقة وإطلاق استراتيجية "آسيا أولا" التي تقضي بتمركز نحو 60 من القوة البحرية الأمريكية في منطقة شرق آسيا خلال السنوات المقبلة، وهنا ينبغي الإشارة إلى أن هذا كله صحيح ولكنه لا يعني بالضرورة تراجع أهمية الشرق الأوسط في الفكر الاستراتيجي الأمريكي، فلا يعقل أن تتخلى الولايات المتحدة عن كونها الضامن الاستراتيجي الرئيسي لأمن إسرائيل، كما أن واشنطن ستواصل سياساتها الخاصة بمنطقة الخليج العربي حتى وإن تقلصت حاجتها للإمدادات النفطية القادمة من تلك المنطقة.
الولايات المتحدة الأمريكية هى القطب الأوحد المهيمن على النظام العالمي، وهذا بدوره يقتضي منها لعب أدوار بعينها للحفاظ على هذه المكانة في مواجهة الصعود القوي لمنافسيها الاستراتيجيين وفي مقدمتهم الصين وروسيا، ومن هذه الجزئية تحديدا يمكن فهم تمسك الولايات المتحدة بدورها في منطقة الخليج العربي.
فرغم أن معظم موارد الطاقة التي تنتجها دول الخليج العربية تتجه إلى اليابان والصين في الوقت الراهن، فإن الولايات المتحدة ترى في سيطرتها على منافذ عبور هذه الموارد وبقاء تحالفاتها مع الدول المنتجة للنفط أحد أدوات الضغط القوية على الصين وحماية مصالح حليفتها الاستراتيجية الأخرى وهى اليابان.
كل ما سبق يعني أن الشرق الأوسط سيظل في بؤرة الاهتمام الأمريكية، ويبقى أن ترتقي السياسة الأمريكية إلى حد الاقتناع بأن مصلحتها الحقيقية في إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، وحتى لو افترضنا أن هذه القناعة موجودة بالفعل فلابد من تفعيلها وترجمة هذه القناعة إلى إرادة سياسية ماضية.
أثق تماما في أن إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي سيقضي على الكثير من الذرائع وسيسهم جديا في تجفيف منابع الإرهاب وتعميق الأمن والاستقرار الإقليمي والقضاء على أجواء الاحتقان وتجارة الدين واستغلال الشعوب والعبث بمقدراتها لمصلحة تنظيمات وجماعات لا تريد سلاما ولا حلولا بقدر ما تسعى إلى تنفيذ مشروعات أيديولوجية وهمية لن تجلب للمنطقة سوى مزيد من الفوضى والدمار.