في الذكرى الرابعة لرحيل "البوعزيزي".. فتى أحرق نفسه وأشعل الحرائق في العالم العربي
استخدمته الآلة الاعلامية ومن يسيرها كشرارة لإسقاط نظام بن علي
أحرق العشرات من التوانسة أنفسهم بعده بحكم الترويكا الحالي في تونس ولم يهتم بهم أحد
شهريا عشرة تونسيين ينتحرون احتجاجاً
بعد أربعة أعوام على انتحار "البوعزيزي" على طريقة "بيدي لا بيد عمرو"، اختار بعض التونسيين وضع حد لحياتهم هرباً من أوضاعهم الصعبة.. منهم من لم يعش أكثر من سنوات قليلة كانت كافية لتجعله يتخذ قرار مغادرة الحياة حرقاً أو شنقاً أو رمياً بنفسه من مكان مرتفع. تتعدد الأساليب ولكن الانتحار واحد والأسباب كثيرة.
في شهر أبريل الماضي، قرر التلميذ جميل المنصوري (14سنة) أن يضع حداً لحياته بإضرام النار بنفسه.. قيل أنه فعل ذلك احتجاجاً على تعنيفه من قِبل مدير مدرسته الواقعة في محافظة سيدي بوزيد. وفي محافظة القيروان، أقدمت فتاة في العاشرة من عمرها على الانتحار شنقاً بتعليق نفسها بإحدى الأشجار في محيط منزلها. المنصوري وفتاة العاشرة ليسا الحالتين الأولى والأخيرة. عشرات التونسيين قرروا الانتحار لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية. في أعقاب ثورة 14 يناير، ارتفعت معدلات الانتحار بشكل كبير. ربما يقتدي التونسيون بمحمد البوعزيزي الذي أضرم النار بنفسه وبنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
وكان المرصد الاجتماعي التونسي كشف، في آخر تقرير أصدره، عن تزايد محاولات الانتحار خلال شهر أكتوبر الماضي لتبلغ 15 حالة أدت في معظمها إلى وفاة الضحية. علماً أن العدد كان 23 حالة خلال شهر أغسطس و8 حالات خلال شهر سبتمبر توزّعت على مختلف الفئات العمرية والاجتماعية. ويشير التقرير إلى تنوّع طرائق الانتحار بين الشنق والحرق والسقوط من المباني العالية، وإلى تنوّع الدوافع، فبعضها اجتماعي ونفسي وبعضها الآخر احتجاجي.
في البحث عن الأسباب والدوافع الكامنة وراء ارتفاع معدلات الانتحار في تونس، يشير الخبراء إلى عوامل عدّة لعل أهمها اليأس الذي تعيشه قطاعات واسعة من المجتمع التونسي. فبعد الثورة، عانت البلاد من تراجع النمو الاقتصادي وتعمقت التباينات الطبقية والاجتماعية وتفشت نزعات العنف الإجرامي والإرهابي. هذا الواقع دفع التونسيين للهروب إلى عوالم أخرى غير هذه "الحياة". فبعد تعليقهم آمالاً عريضة على الثورة، لم يحصدوا غير خيبات الأمل برغم النجاح النسبي على المستوى السياسي.
أشعل جسد محمد البوعزيزي المحترق في سيدي بوزيد في تونس انتفاضة شعبية عارمة في تونس مطالبة بالحرية والكرامة والخبز, وبالتغيير الذي تحقق برحيل الرئيس زين العابدين بن علي ومن تونس إلى منفاه البعيد بجدة .
لكن الجسد المشتعل احتجاجاً على القهر والإقصاء والتهميش أشعل في محيطه العربي حرائق لم تنطفىء بعد في كل الأقطار العربية التي شهدت أحداث ما سمّي بـ “الربيع العربي” مطلع العام 2011م, ففي الجوار التونسي حرائق مدمرة في ليبيا , وإلى الشرق حرائق مستمرة في سوريا واليمن, فهل فتح حريق البوعزيزي ربيع الحرية العربية أم فتح جحيم الصراعات والعدوان الأجنبي؟ .
تقول الحقائق كما تنطق الوقائع كل يوم إن الجحيم الذي أشعله احتراق الجسد المقهور لمواطن عربي, قد تأجّج بوقود القهر والاضطهاد وبركان الغضب والانعتاق, لكنه سرعان ما وقع في قبضة القوى التي أرادته وسيلة لتحقيق أجندة مشبوهة وتنفيذ مؤامرات مُحاكة بدافع الثأر التاريخي وغايات الطمع العدواني لتحالف قديم جديد جمع بين قوى سايكس - بيكو - بلفور وقوى الرجعية الحارسة للتجزئة والتخلّف, فكانت ليبيا ثم سوريا ضحية الحريق والجحيم.. كما في اليمن تتضاعف تعقيدات أزمة أشعلها الحريق وأبقتها الحسابات الخاطئة في رهاناتها على تمحورات إقليمية ودولية, لا تتفق حساباتها ومصالحها مع الأمن والاستقرار اللازمين لتحول ديموقراطي منشود ومطلوب لتحقيق أهداف الانتفاضة الشعبية في الأقطار العربية التي خرجت جماهيرها في حدث غير مسبوق لرفض القهر والاستبداد والمطالبة بالحرية والكرامة والخبز .
تبدو حركة الحرائق الراهنة في ليبيا وسوريا تحديداً مدفوعة بحسابات إقليمية ودولية ظاهرها إرهاب داعش وأخواتها والحرب المفتوحة عليها, وباطنها الحرب الباردة الجديدة على المصالح والنفوذ بين القوى الكبرى على الساحة الدولية وامتداداتها عربياً وإقليمياً, على محور وحيد يخدم الكيان الصهيوني بتدمير وتمزيق ما حوله من أقطار التجزئة الأولى للوطن العربي وأمته المجيدة .
لم تخرج من رماد الحرائق دعوة فكرية واضحة للديمقراطية والدمقرطة, بل إن الذي خرج من الرماد هو مارد الطائفية والتطرّف وتمزّق الأوطان وحدّة الصراعات العنيفة وتفجير الاقتتال الأهلي والتدمير الذاتي في أقطار عربية وتنذر بتمدّده إلى أخرى, وفي كلٍّ لم يتبق من رماد البوعزيزي غير أمل خافت صنعته تونس بقدرتها على التغيير الآمن والتأسيس الممكن لانتقالة عربية وحيدة وفريدة نحو ديمقراطية ناشئة قد لا تصمد في تونس ولا تصل إلى غيرها .