تأملات في المرآة..قصة جديدة لرانيا مسعود

وَقَفَتْ بين سطور الكلمة حائرةً .. ماذا تقول في الحرفين الممتدين على سن القلم الحبر الأزرق؟ انتظَرَتْ، وَانتَظَرَتْ، لم تأتِها الفرصةُ كي تُفصحَ عن كلمة سر البركان الخامل داخل تلافيف جهاز بشريّ ضمته عظامٌ جامدةٌ كالصخر الراكد في مياه نهر الأحزان. من خارج أكفان الحلم المُلتَفَّة حول بويضة أمل ساكن في الوجدان، خرجت لتُسلِّم، قُل بل تستسلم لقيود سجان رابض بسياط جبان.
رَمَقَتْهُ بنظرةِ خائبةٍ عابسة.... "ما بال الفارس الأزرق فوق حصان الأحلام الأبيض لا يأتيني؟ هل طَرَقَتْ أبوابَ الفتيات الأحلامُ المُهلكةُ؟"
تابَعَهَا بنظراتٍ كاشفةٍ. أحسَّتْ أنها لا تواري شيئاً بما ارتدَتْ. استدارتْ لتتعرى وتتعرى...أكثر فأكثر.
– هل تُعْجِبُكَ؟
"ما باله يتأملني وعيناه تخترقني على مرأىً منهم؟ من يا تُرى إليه يدفعُني؟"
- أتعرفين الخيطَ والإبرة؟ ... أتعرفين البنَ والفنجان؟ ... إذن أتزوجك.
- هاكَ مهر ابنتك.
و لسان حالهما يقول: ... بل جاريتك.
في الشرفات التَفَّتْ العذارى يتلهفن وصول الموكب. ها قد وصل نعشُها. وفي التابوت الخشبي المزين بأهازيج السرور الزائف وابتسامات الفرح العارية وهمسات الفتيات و العجائز والعوانس، دَخَلَتْ مرغمةً. دفعَتْهَا الأيادي وهي تسوِّي أكفانها الحريرية الملتفة المنتفشة البيضاء. في ظلمات القبر الدامسة كان مرقدها.
تجَمَّدَتْ أحاسيسُها. ارتَجَفَتْ حين رأتهُ بوجهٍ يُكشِّر عن أنياب الذئاب.
على صفحتها رأت الماضي يطل من وراء زجاجات العطر المرتصة دون انتظام. انتفت علاماتُ الأنوثة الطاغية التي غطت ملامح الجسد المترهل يومًا. وحلت محلها تراكمات هموم الساخطة. لم تنجب. فكفاها همًّا ما بَلَغَتْ. تنعتها الحماةُ بالعاقر، أحيانًا بالأرض البور المقفرة. كُتِبَ عليها البوار.
الآن تسألها: ما بال الفارس الأزرق فوق حصان الأحلام الأبيض لا يأتيني؟ أتراه اليوم يتذكرني؟ كيف وقد كُتِبَ عليَّ رقادي؟
الآن أسألُكِ: يا مرآتي مَنْ أجمل فتيات الدنيا؟ أهناك مَنْ هي أجمل مني؟
بالطبع ترد المرآة....
وتكون ضحية أخرى خلف ستار الفرح المتسخة بأساطير القمع الدامية. تتهامس العجائز وتضحك منهن النساء. والمرآة تعكس ماضيها. تلك الطفلة المفعومة بروايات الفارس الأزرق فوق حصانه الأبيض لا يأتيها إلا وهي في أجمل حلة. يقترب فيقبل جبينها وترتعش يداها الصغيرتان في كفيه المضمومتين فوقهما. لكن الفارس لم يأتِ... ولن يأتي. والمرآة تكشف سنوات الأكفان البيضاء المنتزعة ليلة رقادها الأولى وتزف للعالم أجمع فضائح تتناقلها ألسنة النسوة.