الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الزهايمر لص قاتل


ذكريات الطفولة التي تحملها نسائم الصيف حانية، ولو اشتدت حرارتها، هي الربيع للقلوب في ليالي الشتاء الباردة، ولو دفئت أجوائها، بعضها يأتيك دون سبب والبعض يغادرك يا للعجب!

ذكريات الطفولة ضخمة، تحتل مساحة فخمة من تلابيب العقل، أجسادنا كانت صغيرة ويزداد انكماشها كلما ازدادت الفوضى حولنَا فكنا كما الصفر على يمين الرقم، يمكث في هدوء مصطنع، إلا أنه هو سر قوة هذا الرقم!

قلوبنا كبيرة، مشاعرنا سريعة، أعيننا لاهثة تبحث عن إجابات عابثة لتساؤلات سنكتشف لاحقًا في رحلة الحياة أنها بديهيات وغالبًا ستظل بلا إجابات!

مواقِف الطفولة مرتبة بحسب الأبجدية العاطفية في ألبوم الصور العقلية، صور منقوشة على الحَجَر ستبقي في معابد الدَهر مهما طال العُمر.

ربما ثلاثون ثانية قد تزيد قليلًا أو تقل يسيرًا ، ولكنها كانت كافية للعبور فوق جسر الآنية والانتقال لتلك اللحظة التي أراني فيها فرحة، لأني بلغت مقبض الباب دون مساعدة وبغير الاستعانة بأطراف أناملي لأشب عليها مستدعية قوة زائفة بابتسامة راجفة.

أطرق الباب على عجَل وأفتحه بوجَل، كم كنت أتمني أن تمتد تلك اللحظة لأتذوق الموسيقى البديعة المتسللة من الغرفة كرائحةِ العنبر من الجنة.

كانت فتحة الباب التي فتحتها بامتداد ذراعي عن آخره قليلة، ولكنها كانت تزيد عن ما يحتاج إليه جسدي الصغير ليقتحم الغرفة بخطوات ثابتة، أتقدم للمكتب الذي يتوسط الغرفة ويتوسطه هو بنظارته الضاحكة ونظراته البشوشة، أكاد لا أراه فقامته المتوسطة الطول مختفية، وسط أبحاثه وكتبه الفارهة الارتفاع، يرفع نظارته على أنفه الدقيق فتسطُع عيناه الملونة مُطلقة فراشات الترحاب المزركشة.

تتعالى عبارات الترحيب للزائرة المتسللة العنيدة التي لم تلتفت لكل أجراس التنبيه والإنذار التي يطلق صفيرها كل من زاده الله بسطَةً في أن يتجاوزني طولًا من أهل بيت جدي الكِرام، محذرين إياي بعدم المرور أمام تلك الغرفة لأن عمي عالم الكيمياء لديه أمر مهم يشغله!

عمي الذي أنفق أحلى وأغلى سنوات عمره على العلم والأبحاث، وانتقل ليترأس مناصب عدة في جامعات أوروبية مُختلفة، لم يكن له زوجة ولا ولد فقد وَهَبَ نفسه لما فيه النفع للإنسانية.

أصِل للمكتب منتشية بطعم الانتصار بنجاح مغامرتي الكُبرى، فأجده قد سبقني ليستقبلني استقبال الأبطال فهو يعلم مدى الصِعاب التي واجهتها لأبلغ حِصنه فأحتمي بحضنه، وخاصةً عندما ترتفِع أصوات كتيبة المدافعين عن أحقيته في العمل بهدوء من (وجهة نظرهم) تتساءل عني، وكتيبة الإعدام لكل من تسول له نفسه الاطمئنان عليه من (وجهة نظري)!

يستقبلني بحضن مفتوح وقلب ملهوف وخِطط لتمضية هذا الوقت المخطوف، فيلقي على الفوازير ولكنه سريعًا يقرأ مللي فأصل لغايتي المنشودة أن نلعب سويا إحدى ألعابه الخاصة بِه وحده فهي من بنات أفكاره رأسًا لبنات وصبيان العائلة.

النملة النطاطة أو النحلة القراصة وربما الفراشة النميسة كفكرة لميسة بعد أن ننتهي من لعب بندول الساعة، يطرح الأفكار وكان يترك لي الاختيار فيمُر الوقت سريعًا لا أتذكره إلا عندما يعلنه المنبه الديجيتال الذي لم أنساه يومًا بأرقامه الخضراء ولوحته السوداء التي تخفي يداخلها راديو تتخايل منه موسيقى البرنامج الأوروبي فيتمايل على وجداننا صفاء منسال ببراعة تأسر روحي من لحظة وجودي على باب الغرفة!

وتمضي اللحظات المقتطعة من الزمن سريعًا، تسحَب في طرفها قاطرة الأيام، فنفاجئ بأن ما مر كان سنوات وسنوات شبّ فيها الصغير وشابَ فيها الكبير، لا يُبقي على شبابِ قلب الاثنين غيرَ حقيبة ذكريات الأمس القريب، الذي صار فجأة ينتمي إليّ زمن بعيد.

قانون الحياة غريب كلما كبرنا تكبر بداخلنا المخاوف والوساوس والقلق والحنين، لا يرفع عبء تلك الأحاسيس إلا أن نتوضأ بأدمعنا عندما نتذكر لحظات الصفاء ونحن نستعيد أنفاسنا في ميناء الأحباء.

تِلْك الميناء التي نقف عليها لنستقبل ما هو آت ونودع ما مضي، ولكن أصعب ما يمكن أن نودعه هو ذاكرة الأحباب، ففجأة نصبح خارج ذكرياتهم وكأننا يومًا ما كنّا كل حياتهم!

والسبب هو مرض (الزهايمر) الذي يقتات على إنسانية المريض، ويتغذي على كرامة أهله، ويتسلى بمشاعر الخوف والرهبة المتبادلة بينَ المريض وأسرته، فكلاهما يخشى الآخر، المريض يشعر بالرهبة لأنه لا يتعرف على أهله فيشعر بالغربة، والأهل مرتعبون من غدٍ مظلم مع مرض لا أمل في الشفاء منه.

هكذا صارت أحوال عمّي الدكتور الباحِث العالم، بينَ ليلة وضحاها انطفأ بريق عينيه وتبدل بلمعة، بسبب دمعة يحبسها عقله الباطن اعتزازًا بكرامته، نسي أنه كان يومًا يرتدي نظارة طبية ليري بوضوح فما عاد يحتاج إليها لأن ما سيراه لن يزيده إلا رعبًا ووحدة.

لم تفلح الإمكانيات الطبية المتقدمة التي وفرَّت له من أطباء وممرضين مناوبين وإخوة وأخوات مقيمين وزيارات كل المحبين، لم تزده إلا رهقًا!

وبالرغم من أن المرض قد يمتد إلى عشرين عاما، إلا أن عمّي الحبيب لم يتحمل أكثر من عام، وآثر السلامة ليحتفظ بما تبقى من كرامة، ولقى بعده وجه ربه بشوشًا طيبًا كريمًا وأخيرًا هادئًا بعد عام كان عاما للحزن، كان شروق الشمس ما هو إلا نذير بأنه سيفقد جزءًا جديدًا من ذاكرته، بدأت بأين وضع ساعته؟ وانتهت بانتهاك كامل لذاكرته عندما حلّت ساعته.

مرّ شريط الذكريات أمام عيني في زمن إعلان دار الباقيات الصالحات لرعاية مرضى الزهايمر أو كما يطلق عليه (الخرف) أو (الأمَه) الذي تترأسه الإنسانة الخلوقة الحنونة ماما عبلة الكحلاوي.

المرض على اختلافه قاس ولكنّ مرض الزهايمر مُهين ومنهك للمريض وأسرته، كما أنه يمثل خطورة حقيقية على المريض وعلى أسرته إذا غضّ الأهل الطرف للحظات قد تكون مُهلكة، بحاجة لرعاية مُكثفة أناء الليل وأطراف النهار وإلا ستكون العواقب وخيمة.

قد يفتح المريض الباب ويمضي دون وعي منه ولَك أن تتخيل ما يمكن أن ينتج عن ذلك! الحرص في عدم وجود آلات حادة ومنظفات أو أدوية أو حتى صابون اليدين لأن كل ذلك خطر على حياة المريض إذا شربه أو استخدمه بشكل خاطئ، النوافذ والبلكونات كارثة في بيت المريض، المواقد والكهرباء كلها مصائب متربصة في انتظار لحظة الغفلة للانقضاض.

ربنّا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، وأجعلنا في اللحظات الأخيرة من أعمارنا نستأنس بوجودنا وسط الأهل والأصحاب، ربي ارحم ضعفنا ولا تكتب علينا الغُربة ونحن وسط ذوي القُربي، رُحماك يا ربي.

الباقيات الصالحات صرخة إنذار دوَّت لتشق سكون ليل شديد الظلام لمرض على مدى أكثر من 110 أعوام على اكتشافه لم يتوصل العلم له لعلاج، ولعل ما زال النجم عمر الشريف أحد الذين عانوا من المرض، هو دليل على بطش يد المرض، ولن ننسي معاناة الرئيس رونالد ريغان الرئيس الأمريكي الأسبق في حربه الشرسة غير المتكافئة مع نفس المرض.

الزهايمر لص يسرق الذاكرة نهارًا جهارًا، قاتل يَقْتُل بدم بارد استقرار وهدوء الأسرة، توفير مكان آمن مجهز لمريض الزهايمر حُلم يجب أن نساهِم جميعًا في تحقيقه وتطويره والعمل عليه، أمل نزرعه في قلوب أنهكها الألم.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط