الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

وهكذا أحببت جمال عبدالناصر!!


نحن البشر لم نتفق يومًا على شخص أو فعل، الخلاف دائمًا حاضر بعلم أو دون، كلٌ يُترجم ما بداخله في كلمات يُقال عنها رأي، والغالبية منّا لا يحكمون على الأشخاص من منظور واسع فإما نقد يمحو كل شيء أو تمجيد يتخطى درجات التملّق التي نعرفها وتلك التي لم نعرفها بعد.

قضت مصر نحو 2000 عام من تاريخها، يحكمها غرباء، فتارة واقعة تحت حكم الرومان وأخرى تحت حكم الفاطميين ثم الأيوبيين وأخرى تحت حكم المماليك الذين جاءوها "خدمًا"، بخلاف الأتراك الذين استباحوا كل شيء واعتبروه ملكًا لهم، فترات تعاقبت على مصر كان أبناؤها فيها مجرد عمّال وفلاحين، يعملون ويتقاضون أجرهم "لقيمات"، يزرعون مقابل ما يسد جوعهم، و"جلباب" سنوي من صاحب الفضل المملوكي أو التركي.

حينما تقرأ فصولًا من التاريخ وتعود إلى الوراء ثلاثة أو أربعة أو حتى خمسة قرون، ستقول إنك لو عشت في تلك الفترة لقتلت هذا "المملوكي" الذي لا يعرف من هم "أبويه" وتحكّم في أقوات أجدادنا أو فخّخت منزل ذاك "التركي" المنصوب في قلب أرض يرويها "نيل المصريين"، أما هذا الخواجة الإنجليزي فكل ما في الدنيا من كُره لن يكفيك لتحرقه وأنت تراه يستعبد، يسجن ويجلد ويسلب.

"عجافًا" كانت تلك القرون، لكن السؤال الذي لن تجد له إجابة شافية هو كيف احتملها المصريون؟ وكيف رضوا بفكرة سلب إرادتهم ولماذا ارتضوا بالغرباء على أرضهم؟، ربما كانوا يؤمنون بسُنة الحياة التي التي تقول إنه لا "أبدي" وكل شيء له نهاية حتى الدنيا بكل ما عليها، عمومًا مرّت تلك الدهور ولم تنحنِ ظهور المصريين وظلت قاماتهم "منصوبة" أو قل جاهزة لليوم الذي ستجري فيه "السُنة".

في قرية بمحافظة تبعد عن العاصمة نحو 140 كيلو مترًا قضيت سنوات طفولتي، وكان جدّي لأبي رجلًا يقرأ "الكلام" جيدًا ويعي معانيه، كلماته قليلة ويعرف أين ومتى يضعها، جذور سنوات عمره ضاربة في تاريخ مصر الحديث فهو من مواليد 1919 وروى لي أن الأسرة كانت تقيد الأبناء وهم في أعمار الـ 7 والـ 8 سنوات بما يعني أن عمره أقدم من ذلك، كان يُحب جمال عبد الناصر حبًا مُفرطًا ولا يذكره إلا ويقول "الريس جمال عبدالناصر" وإذا ذكر أحد "ناصر" أمامه بما لا يُعجبه كان يرد: "كنتوا فين وقتها.. إنتوا مشفتوش حاجة.. مشفتوش الظلم وانعدام الإنسانية".

كان جدّي يروي لي عن أيام استعباد البشر، وقسوة سياط "الهجانة السودانية" على أجساد "الجائعين"، فلاحون يكدّون ويزرعون، تأكلهم الأرض ولا يُسمح لهم بأكل ما زرعته أيديهم، كل محافظة –بخلاف العاصمة- كان يسيطر عليها مجموعة "باشوات" أغلبهم أتراك ومجموعة أخرى من الخواجات الإنجليز، يملكون كل شيء حتى البشر، يستقدمون من يحميهم ويحرس أرضهم، من يقترب تكويه سياط رجال "سُمر" يركبون الجمال فلا يجرؤ من زرع على قطف "برتقالة" من شجرة اعتنى بها طوال العام.

حكى لي جدّى عن ثورة 1952 وكيف أن عبدالناصر أعاد للمصريين حقهم في الحياة وكسر القيد الذي خنقهم على مدار قرون، كان يحكي وعيناه تلمعان من الفخر، كان يسيطر على كلامه دائمًا طيف من السعادة، يحكي عن "ناصر" ولا يمل، يقول عن الرجل ولا يزهد، يصف ولا تنضب جعبته، أحَبّ جدّي عبد الناصر حبًّا جمًّا وكان بالنسبة له -ولكل المصريين في تلك الفترة- "مُخلِّص".

كنت وقتها طفلًا، أسمع وأتخيل شكل هذا الرجل -عبدالناصر- وكيف أنه –بمنطق الأجداد- أنهى شقاء أبناء الأرض، ومهما كانت ثقافتك فلن تجد أمام ذلك إلا أن تحب رجلًا لم تره بعد، ظلت كلمات جدِّي في رأسي سنوات طويلة وكلما رأيت "ناصر" تذكرتها، أتأمل ملامحه لعلي أعرف هل من أحبوا "ناصر" بهذا الشكل رأوا فيه ما لم يره غيرهم؟ أم أن ما فعله من توزيع الأراضي على المصريين جعلهم يرتبطون به "وجدانيًا" وهذه صفة لا يعرفها سوى من "فلح" الأرض وزرعها؟.

مرَّت السنوات.. قرأت كثيرًا وكثيرًا عن عبد الناصر.. عن المُفتري والمُفتَرى عليه.. عن "الحاشية".. وعن الضباط الأحرار.. عن ثورة 23 يوليو.. وعن رجال دعّموها وعصفت بهم، لا أدَّعى أني ألممت بكل شيء لكن مما قرأته ووعيته صغيرًا سأظل أحب عبدالناصر مهما كُتب فيه أو كُتب عنه، أخطأ؟.. ربما .. أصاب؟.. مؤكد، لكنه يظل في نظري ذاك الوطني الذي أحبَّ مصر، ذاك "الفلاح قليل الحيا" في مُواجهة أعدائه كما وصفه عمّنا أحمد فؤاد نجم في قصيدته زيارة إلى ضريح عبد الناصر:
فلاح قليل الحيا
إذا الكلاب سابت
ولا يطاطيش للعدا
مهما السهام صابت
عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت
وعاش ومات وسطنا
على طبعنا ثابت
وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت
ولا يطولوه العدا
مهما الأمور جابت
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط