حكاية الجنزوري ورئيس وزارة الإنقاذ (2)
كلفه مبارك بالوزارة وعهد بها لعاطف صدقي كان طبيعيا بعد استقالة د.علي لطفي(نوفمبر86) أن يأتي الدور علي الجنزوري، الذي أكد لي أن مبارك كلفه فعلا ببدء إعداد التشكيل، فلما علم الدكتور رفعت المحجوب، رئيس مجلس الشعب، بذلك قال لمبارك مامعناه إن الجنزوري مازال المستقبل مفتوحا أمامه، وإنه سيشير عليه بشخصية تمسك من خلال عملها بمصارين الدولة، ولم يضع مبارك وقتا ففي اليوم التالي ذهب عاطف صدقي، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، إلى موعد مع الرئيس، وقد حمل معه كميات كبيرة من الملفات التي سهر الليل في جمعها تصورا أن الرئيس سيسأله فيها، ولكن الرئيس طلب إليه أن يترك الملفات والدوسيهات جانبا ويشرب فنجان القهوة أمامه، وعندما امتدت يده إلي الفنجان جاءته آخر مفاجأة كان يتوقعها بتكليف الرئيس له برئاسة الوزارة، فاهتزت أصابعه وكاد فنجان القهوة ــ كما حكى لي رحمه الله ــ يسقط من يده!
سنوات الاغتيالات والعنف
كان عاطف صدقي وهو من مواليد 30 أغسطس 1930 (توفي في فبراير 2005) أطول رئيس وزراء، استمر في منصبه ليس فقط في فترة حسني مبارك وإنما منذ ثورة يوليو 52، فقد رأس الوزارة من11 نوفمبر 86 إلى 4 يناير96 مجريا ثلاثة تعديلات عليها، وقد كان نموذجا لرئيس الوزراء الذي لا يضيق بالنقد العنيف المتوالي الذي كان يوجه إليه في الصحف، وكان على رأس منتقديه بسخرية شديدة الثنائي أحمد رجب ومصطفى حسين، مع ذلك كان صدقي يستقبلهما بالأحضان عند رؤيتهما.
وقد صادفت فترة عاطف صدقي رياحا طيبة، إذ مع حرب تحرير الكويت عام 1990 تخففت مصر من قيود أقساط الديون الأمريكية التي ألغتها أمريكا، وكانت هما كبيرا وتحسنت إلي حد ما الأوضاع الاقصادية، إلا أن فترته شهدت من ناحية أخرى تصاعد عمليات العنف والاغتيالات التي قامت بها التيارات الإسلامية المتطرفة، والتي اغتالت الدكتور رفعت المحجوب، رئيس مجلس الشعب (1990)، والكاتب المفكر الدكتور فرج فودة (يونيو 92).
وفي عام 93، فشلت محاولات اغتيال اللواء حسن الألفي وهو وزير داخلية، وعاطف صدقي وهو رئيس وزراء، وصفوت الشريف وهو وزير إعلام، والكاتب الصحفي مكرم محمد أحمد، وبعد ذلك جرت محاولة اغتيال نجيب محفوظ عام 94، ثم في17 نوفمبر1997 روعت مصر بمذبحة الدير البحري في الاقصر عندما هاجم ستة مسلحين بالرشاشات والسكاكين وهم متنكرون في ملابس جنود الأمن، زوار الدير فقتلوا 26 وأصابوا 62 سائحا أجنبيا، ثم استولوا على أحد الاتوبيسات السياحية الخاصة بأحد الوفود واختفوا وبعد بحث طويل تم العثور عليهم في أحد الكهوف وقد انتحروا جميعا، إلا أن هذا الحادث كان له تأثير سلبي شديد على السياحة في مصر في ذلك الوقت.
وفي عام 1989، أجرى د. عاطف صدقي عملية جراحية في القلب بدا بعدها أن صحته لن تتحملن وبالفعل بدأ مبارك التفكير في رئيس وزراء جديد ولكنه قرر الانتظار إلى العام التالي حتى لا يبدو أنه يعاقب صدقي على عمل لاذنب له فيه، ولكن مع غزو صدام حسين للكويت في أغسطس 1990 الذي كان محددا لتغيير عاطف صدقي، انقلب حال الوطن العربي، وطفت فوق السطح أحداث كبرى، وظل عاطف رئيسا للوزارة إلى يناير 1996، وأخيرا بعد انتظار طويل، جاء دور الدكتور كمال الجنزوري ليصبح رئيسا للوزراء في 4 يناير 1996 وليكون رئيس الوزراء رقم خمسة في قائمة رؤساء وزارات مبارك.
نظرة إلى المستقبل
كانت رؤية الجنزوري من خلال توليه وزارة التخطيط نحو عشرين سنة، تتركز في الخروج من الوادي الضيق الذي ينحصر فيه ملايين المصريين، فاتجه إلى المشروعات التي تهدف ـ كما قال لي في حديث خاص ـ إلى الانطلاق خارج وادي النيل شمالا وشرقا في سيناء وجنوبا في توشكى.
ففي الشمال تم استكمال تنفيذ مشروع استخدام مياه النيل في زراعة 230 ألف فدان غرب قناة السويس ومساحات أخرى في سيناء عن طريق ترعة السلام رقم2، التي استهدفت نقل مياه نهر النيل إلى غرب قناة السويس من خلال سحارات تحت القناة بما يضيف زراعة نحو 400 ألف فدان، وفي الشمال أيضا قام بتنفيذ مشروع شمال غرب السويس يمتد على مساحة 300 مليون متر مربع كانت معظمها جبلية تم تسطيحها وقامت القوات المسلحة بإزالة مابها من ألغام، وكان مقررا أن تتسع هذه المنطقة لعشرات المشروعات الصناعية لكن لم تقم فيها سوى خمسة مشروعات، أربعة مصرية للسماد والسيراميك والحديد، بالإضافة إلى منطقة خاصة (2 كيلو متر مربع) يقيم عليها الصينيون عددا من المشروعات.
وفي الجنوب مشروع توشكى الذي وجهت له اتهامات كثيرة وتوقف رغم إتمام بنيته الأساسية وصرف نحو خمسة مليارات عليه، وفي الشرق مشروع شرق تفريعة بورسعيد لإقامة مشروعات خدمية تضم مستودعات لتخزين المنتجات البترولية ومحطات تموين للسفن والناقلات، ولم تتم الاستفادة بالمشروع حتى اليوم.
وفي الغرب تم شق ترعتين بهدف زراعة المنطقة ومد سكك حديدية، وأيضا توقف العمل في المشروع وامتلأت الترعتان بالرمال وسرقت قضبان السكك الحديدية، وهكذا عمليا تم إيقاف جميع مشروعات الجنزوري فور خروجه.
مبارك: أيوه انت حتمشي ياكمال
في يوم الخامس من اكتوبر 99 ذهب مبارك إلى مجلس الشعب لافتتاح الدورة البرلمانية الجديدة، وفي صالون المجلس قبل أن يدخل مبارك القاعة سأله د. كمال الجنزوري إذا كان من المناسب ان تتقدم الحكومة باستقالتها، فأجابه بسرعة: "أيوه ما أنا حاعمل تغيير"، سأله الجنزوري "وأنا في التغيير؟" قال له مبارك: "أيوه انت حتمشي"! وحسب كلمات الجنزوري لي فإنه حمد الله في سره، فقد أصبح يشعر بأن علاقته مع مبارك تمثل عبئا على الاثنين: على مبارك وعلى الجنزوري.
فمن ناحية مبارك، كان قد اقتنع بأن الجنزوري له شعبية تزاحمه، ومن صفات مبارك ـ التي أصبح من حوله يعرفونها ـ شعوره بالضيق من أي واحد له ريق جماهيري، مما جعل المحيطين به يبعدون من يريدون لمجرد التلويح لمبارك بأن فلانا تتسلط الأضواء عليه، ومن يراجع كل الذين استمروا طويلا في مواقعهم يجد أنهم الشخصيات التي لم تكن لها جماهيرية أو ثقل.
وبخروج كمال الجنزوري أسدلت عليه ستائر النسيان، وكان رئيس الوزراء الوحيد الذي لم يعين في منصب بعد خروجه، كما ظل سنوات طويلة مستبعدا من قائمة المدعوين لأي احتفال بعد أن نقل إلى مبارك أنه إذا دخل أي مكان يقابل بالتصفيق الشديد، وطوال 11 سنة لم ينسب إليه أي حديث أو تصريح، إلى أن سقط نظام مبارك فشاهده المواطنون بعد غياب طويل في حديث مع المذيعة مني الشاذلي.
(باختصار من كتابي: الصعود والسقوط فصل رؤساء وزارات عهد مبارك)