الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ولكم في نهاية الطحان عِبرة!


كان يعيش في إحدى البلدان رجل مخادع يعمل طحانا، وذات مرة عانى من ألم شديد في الأسنان، وتألم كثيرا منه بعد أن بات لم يستطع مواصلة عمله بسببه، فذهب إلى حكيم البلدة، حيث كان الناس يقصدون الحكماء للتخلص من عللهم، فقرر الذهاب إلى أحدهم لاستشارته في علاج، وعندما ذهب إلى كبير الحكماء، أخبر أحد الخدم الخاصين بالحكيم عن قصة هذا الطحان المخادع الذي لا يفي بوعده، وسمع الطحان كلام الخادم عنه ليعود ويؤكد للحكيم أنه سيفي بوعده هذه المرة إن أعطاه العلاج الذي يخلصه من أوجاعه، قائلًا: "أعطني علاجًا وسأعطيك تلك المرة عشرة، أو حتى مائة بقرة، وهذا وعد أكيد مني".

ورغم تحذيرات الخادم للحكيم بأن هذا الرجل كاذب ولا يستحق الشفقة ولا العناية لقلة أمانته، وغدره بالوعود، أراد الحكيم أن يعطي الطحان فرصة جديدة ليفي بأقواله لعله يصدق تلك المرة وأن ما قيل عنه مجرد شائعات، وأعطى الحكيم للطحان مجموعة أعشاب لتخفيف ألم أسنانه، فشكر الطحان الحكيم ووعده بأنه لن ينسى المائة بقرة التي وعده إياها، وعاد الطحان إلى منزله وتناول أعشاب الحكيم وزال ألم أسنانه تماما وشفي، ومن بعدها وقد عاد إلى نشاطه وواصل حياته وباشر عمله في الطاحونة كعادته.

وبعد أيام تذكر الطحان وعده للحكيم بالمائة بقرة، ولأنه مخادع وكاذب كعادته ظل يفكر في فكرة للخروج من ورطته، فجاءته الحيلة ليتذكر أنه لم يقل للحكيم إنه سيعطيه بقرات حقيقية، فقرر صنع بقرات من العجين، وفِي يوم وبمحض الصدفة مر خادم الحكيم من نافذة منزل ذلك الطحان فوجده يقوم بصنع عجين من الدقيق المطحون ويقوم بتشكيله على هيئة وشكل بقر، حتى أكمل الطحان العدد وشكل البقر وأكمل خطته، وفِي الوقت نفسه أسرع الخادم إلى الحكيم ليخبره بحقيقة مكر وخداع ذلك الطحان ويطلب منه أن يعاقبه حتى يكف عن كذبه وخداعه، وقد اقترح الخادم على الحكيم طريقة لعقاب الطحان وهي أن يجعله يتألم أكثر من المرة السابقة.

وعندما جاء الطحان إلى الحكيم ومن المفترض أن يفي بوعده ويحضر إليه المائة بقرة التي صنعها من العجين وقادها إلى الحكيم وقال له: "يا كبير الحكماء لقد أحضرت مائة بقرة لك، وبهذا أكون قد وفيت بوعدي"، قام الخادم بإظهار الترحيب للطحان، وقدم له طعامًا به مجموعة من الأعشاب التي تسبب ألما شديدا للطحان، ولكن كان الطحان يشعر بالشبع ورفض تناول الطعام، ولأنه مخادع يتقن جيدًا طرق الخداع نجا من طريقة العقاب الأولى، وجاء الخادم ثانية ليقترح على الحكيم خطة جديدة وهي إلقاء الطحان في النهر، إلا أنه حدث ظرف اضطر الطحان إلى عدم الخروج للسوق في ذلك اليوم، ونجا الطحان للمرة الثانية، فقرر الحكيم بنفسه في طريقة أخيرة لعلها تصيب هذه المرة، إذ إنه أرسل إلى الطحان رسالة يشكره فيها على وفائه بوعده، وطلب منه أن يخرج للبحر لينال مكافأة قد أعدها له وهي مائة قطعة من الذهب، وبالفعل أسرع الطحان بسرعة نحو البحر، وما إن وصل إلى شاطئ البحر ظل يبحث هنا وهناك عن الذهب، ولَم يجده، إلى أن سمعه مجموعة من القراصنة وكانوا يبحثون عن ما تركوه من ذهب على الشاطئ، فظنوا أن الطحان قام بسرقته، وقاموا بتقييد الطحان وحملوه على السفينة وساروا به بعيدًا، ليطلب الطحان النجدة مجددا من الحكيم الذي خدعه من قبل، ويصيح للحكيم ويطلب منه أن ينقذه ولكن مقابل أن يعطيه ألف بقرة حقيقية تلك المرة، ليضحك الحكيم ويقول للطحان المخادع: "إن كنت وفيًا لوعدك منذ البداية، لم تكن لتنال هذا العقاب".

ملخص قصة قرأتها أعجبتني وبصرف النظر عن كونها من وحي الخيال، فجميع أبطالها وأحداثها تتحدث عن واقع نعيشه منذ فترة ولا يزال، فحكاية تلك الطحان هي حكاية العديد من المخادعين والغشاشين بالقول أو الفعل الذين يحيطون بِنَا أو نصادفهم في حياتنا، وأناس كاذبين منهم من عشنا معهم ومن جمعتنا بهم عمل أو دراسة أو صداقة أو حتى كنّا جيران، ومنهم الغريب الذي لا نعلم عنه شيئا وقد نتوسم فيه الخير ونفترض فيه حسن النية ثم يثبت لنا أننا كنّا على خطأ، ومنهم القديس المزيف الذي يرتدي دوما ثوب العفة والإيمان والطهارة وهو بعيد كل البعد عنهم بل يسود قلبه النفاق والرياء، وحتى الصديق الذي يظهر لك الحب والود وهو بداخله يحمل لك عكس ذلك، وتجاه الآخرين، وما أكثرهم، فكم خدعنا في أناس ظننا فيهم وجه القديس الأمين وما كان إلا ان ظهروا بوجهم الحقيقي الذي لا يحمل إلا وجه القديس المزيف.

ومنهم النائب الذي وعد أهل دائرته بتلبية طلباتهم وأحلامهم، وعند فوزه بكرسي البرلمان كان أول من نسي من وقف بجانبه وتمرد على من صنع منه مسئولا، والسياسي الذي يتاجر باسم الشعب والأمة، وهو أشبه ما يكون بالطحان المخادع الذي استطاع حتى أن يخدع الحكيم الرجل ذا العلم والحكمة ولكنه لم يدرك فنون المكر والخديعة، فما بالك بمجموعة من العامة تختلف أعمارهم وثقافاتهم وتعليمهم وخبراتهم، والسياسي الذي يخرج علينا بمظهر حامي الناس وناصرهم ضد الظلم والبطش، الرجل ذو الأخلاق الحميدة الذي يثق في نبرات صوته الكثيرون ليتفاجأوا بنذالة ووقاحة وجهه الحقيقي، فيتكشف أمره وعلاقاته المخجلة وأفعاله التي يتبرأ منها كل المجتمع، ولعل آخر مثال حي ذلك السياسي البارز والعضو في البرلمان الذي سقط قناعه دون الخوض في أسماء وتفاصيل والكل يعلم حقيقة الأحداث.

ومنهم الصحفي الذي يتاجر بقلمه من أجل أشخاص، فتجده مع الرجل الفلاني تارة هنا وتارة مع الشخص العلاني، فيخسر قراءه وسمعته في مقابل منصب في جريدة قومية براتب أعلى، والإعلامي المتملق والمنافق عبر الفضائيات، ورجل الدين والواعظ الذي يتاجر بكلام الله وتعليمات الدين فيتخلى عن قضية أو يسعى لخدمة قضية أخرى، في صورة مسيئة قد يدخل فيها الدين في صراعات ومنازعات أو يقوم بتوجيه البعض في نفس الخدمة.

وبمناسبة ذكرى حلول ثورة يناير، نستعيد شخص الثائر المزيف علي سبيل المثال أو "البوب" حبيب الكثيرين الذي اقترب من الشباب ليقنع البعض بالعيش والحريّة والعدالة الاجتماعية وأن لا محال عن التغيير، وعلى الرغم من أن النيات كانت صافية محملة بكل خير تحلم بمستقبل أفضل، ونزل الملايين إلى الميادين ليتركهم وحالهم، مسافر كان أو بعيدا عن ساحة المعركة بعد أن أشعلها وبعد أن انكشفت حقيقة أمره عاد يناشدهم مجددا من وراء ستائر الغرب، وكما يقال: "المتغطي بالغرب عريان".

ونفس حال الطحان المخادع حال الإخوان، تلك الجماعات الأكثر خداعًا على مر التاريخ، مجموعة الأفاقين والمنافقين الذين تبرأوا في البداية من دعوات البعض للنزول إلى ميدان التحرير في ثورة قامت على نظام سابق، حتى يترقبوا الموقف عن بعد إن خفق هؤلاء كانوا هم بعيدين عن المشهد، وإن نجحت الثورة كانوا هم أول من يركب الموجة ويعلن نفسه ثائرًا وشريفًا، وحتى لا أطيل في الخوض في وقاحة أفعالهم وخبث مخططاتهم التي لن يغفل عنها أحد، وها هم يكررون نفس خديعة الطحان للحكيم المتمثل في "الشعب" ليوعدوهم من جديد ويناشدوهم من خلال منابرهم الإعلامية الكاذبة، فيكذبون ويسربون معلومات وتحليلات ليست صحيحة ويفبركون الخديعة أملًا في حلم العودة وحكم الخلافة، ولكن قد أدرك الشعب كما أدرك الحكيم ألاعيب الطحان المخادع ونال عقابه، وعقاب الإخوان يكفي في عودتهم إلى جحورهم.

وأصحاب التاريخ المزيف الذين يتاجرون بمصالح الفقراء، وحتى من يُدافع عن الدولة ويهل علينا من خلال الساحات الإعلامية كثيرًا، يتحدثون عن الوطنية وهما يسعون إلى مصالحهم الشخصية بالتقرب للحاكم.

الخلاصة، أننا أصبحنا نحاط بكم هائل من المنافقين والمخادعين والأفاقين، من يُظهر غير ما يُخفي، وقد قال تعالى "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا"، ذلك غير المتفلسفين والمتشدقين الذين يخوضون في أمورنا توصيفا وتحليلا وتفنيدا، في ظاهرة "النفاق الاجتماعي" هي الأكثر انتشارا، خاصة أصابت مجال الإعلام، لدرجة فاقت الوصف، ولمستوى أشبه بالعهر.

وكما أن هناك من هم على شاكلة الطحان المخادع والقديس المزيف، فهناك المخلصون الصالحون والمؤمنون برسالتهم تجاه وطنهم وما زالوا يبذلون الغالي والنفيس لصالح البلد بدون أي عائد يعود عليهم سوى حب الوطن، وأما عن هؤلاء المنافقين والأفاقين نقول لهم: ولكم في نهاية "الطحان المخادع" عِبرة!
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط