الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إنت شفت أيمن؟ عامل محطة مصر يعلم الحقيقة ويخفي مصير الضحية عن أهله

صدى البلد

استقل مواصلاته كالمعتاد، ذاهبا إلى عمله مثل أي يوم، ارتدى عم نوح زي العمل ليبدأ ورديته في أحد أكشاك محطة مصر، وتحديدا في رصيف رقم 6، الأجواء مثل كل يوم، ولكن شيئا بداخل عم نوح تغير، فاليوم ليس كسابقه، أمس شهد عم نوح على واحدة من أبشع الحوادث التي وقعت منذ عمله بالسكة الحديد، ملامحه بدا عليها الشيب والحزن، انتظم في عمله رغم رائحة الموت التي تحاوطه، ينظر إلى الساعة منتظرا انتهاء دوامه ليرحل عن المكان المشئوم.


لحظات صعبة عاشها عم نوح، لم تنته بنهاية أحداث يوم أمس، مازال كابوس اليوم المشئوم يراوده في كل لحظة رافضا الابتعاد عنه، لم يتمكن عم نوح من النوم، كيف يستطيع وقد شاهد رحيل أصدقائه وزملاء عمله أمام عينيه، منهم من تم العثور عليه جثته متفحمة، وآخر مفقود حتى الآن، مجهول المصير لا يعلم أحد مكانه، أيمن ممدوح عبد العزيز، أحد العمال في المحطة الذي يخطف بال عم نوح، يجلس يفكر فيه، أين أصبح وكيف بات، ماذا حل به بعد آخر مرة رآه فيها بجوار الرصيف قبل الحادث بدقائق.

يروي عم نوح كارثة أمس، بالكاد يتماسك حابسا دموعه، يقطع كلماته 4 أشخاص، أقبلوا عليه، وإذا بسؤال طرحه أحدهم وقع على عم نوح مثل صعقة الكهرباء، وقف أمامهم متلعثم الكلمات، يكرر أحد الرجال السؤال عليه: "ما شفتش أيمن؟"، ذهب نوح بوجهه الاتجاه المعاكس لهما، دموعه تسقط من عينيه تكسر محاولاته حبسها.



يكرر الرجل السؤال: "إنت شفته؟ طمنا وقولنا بس احنا عايزين نعرف"، وقع السؤال على عم نوح بمثابة السوط الذي يجلده، فالإجابة ستجلد هؤلاء الأشخاص الذين أتوا بحثا عن ابنهم، لحظات صمت، قطعها عم نوح فجأة قائلا: "أيمن تحت الأنقاض ادعوله بس".

قطع أهالي أيمن ممدوح، مئات الكيلومترات من قرية القورين بمركز أبو حماد بمحافظة الشرقية، بحثا عن ابنهم الذي يعمل بأحد الأكشاك داخل محطة مصر، يرحل الشاب في نهاية العقد الثالث من عمره من منزله كل يوم إلى القاهرة، معلقا قلبي والديه معه حتى يرجع إليهما، فلذة كبدهما الذي لم يرزقا غيره، وفي اليوم المشئوم رحل أيمن عنهما بعد الفجر متجها إلى القاهرة، ليسمعا بخبر الحريق من التليفزيون، ليحضرا إلى القاهرة بحثا عنه. 


"صلى الفجر وجه باسني قالي يابا أنا ماشي"، كانت تلك آخر لحظات أيمن ممدوح مع والده، يقف الأب المكلوم في أحد أركان محطة مصر، تعجز قدماه عن حمله، ابنه الوحيد الذي تمناه من الدنيا أصبح مفقودا اليوم، احتمالية بقائه على قيد الحياة ضعيفة، موته مؤكد، ولكن يظل جسده مفقودا، بحث عنه الأب برفقة الخال وبعض أفراد الأسرة في كل المستشفيات، من الهلال لدار الشفاء وقصر العيني ومعهد ناصر، حتى استسلموا ورضخوا لوفاته، فذهبوا بحثا عنه في مشرحة زينهم ولكن بلا جدوى.

رحلة تقفي أثر أيمن ممدوح باتت أشبه بالمهمة المستحيلة، يبحثون عن جثة كالإبرة في كومة القش، يتعلقون بأي خبر يدلهم عليه فيذهبون في طريقه أملا في العثور عليه، يجوبون المستشفيات هنا، وتقبع والدته هناك في المنزل تبكيه حرقا، انفطر قلبها على ابنها، لا تملك غيره في الحياة.

"عارف إنه مات.. أشوف الجثة بقى وأدفنه وأعيط على قبره"، استسلام الأب للأمر الواقع جعل العمال في المحطة يطيبون خاطره، يروون له سيرة ابنه الطيبة بينهم، وكيف عهدوه بحسن الخلق وطيب الكلام والمعاملة الحسنة، وكيف فرحوا به بعد قرار تعيينه العام الماضي بعقد في الشركة بدلا من العقد المؤقت.

يبحث رجال العائلة عن مفقودهم هنا، وتجلس نساء القرية هناك في منازلهم، مبحلقات أعينهن أمام شاشات التلفاز ونشرات الأخبار أملا في سماع أي خبر عن أيمن يطمئنهم ويريح بالهم.