ربما يتوجب علينا أولا أن نتحدث عما يُعرف في المنطق بـ "معضلة التمساح"، وليس عن " تمساحة" فضة المعداوي في مسلسل "الراية البيضاء".
و"معضلة التمساح" هي إحدى أشكال معضلات الكذاب، حيث تحكي المعضلة: أن تمساحًا سرق طفلًا، ووعد الأب أن يعيده إليه إذا تنبأ الأب بشكل صحيح إذا ما كان التمساح سيعيد الطفل أم لا؟!
والمفارقات أو المعضلات المنطقية هي كما يقول الفيلسوف الإنجليزي "مارك سنسبري "هي استنتاجات تبدو غير مقبولة، لكنها مبنية على تحليل منطقي صحيح ومقدمات منطقية.
فليس منطقيًا أن يقول أحمد مراد إن "أدب نجيب محفوظ لم يعد مناسبًا لإيقاع العصر"، أو أن تصف "أسما شريف منير" الشيخ الشعراوي بـ "المتطرف".
وليس مقبولًا أن يخرج علينا الشاعر والسيناريست الكبير دكتور مدحت العدل واصفًا الدفاع عن الشعراوي ضد تصريحات بنت شريف منير بأنه "إرهاب فكري"، وأن "الشيخ الشعراوي مهما علا شأنه ليس نبيًا ولا معصومًا"، مُطالبًا مهاجمي "أسما" بتعلم "ثقافة الاختلاف"، قبل أن يُنهي بقوله: "استقيموا ولا تعبدوا أصنامًا تصنعونها"؟!
وبالطبع تصريح أحمد مراد، وأسما شريف منير، ودفاع مدحت العدل أمور غير منطقية وغير مقبولة.
لأن من قواعد المنطق أن الحكم على الشيء يتطلب المعرفة به.
حتى الرسول صلى الله عليه وسلم عندما مر بقوم يلقحون النخل، فقال: لو لم تفعلوا لصلح، فأثمر تمرًا رديئًا، فمر بهم، فقال: ما لنخلكم؟، قالوا: قلت كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن له دراية بأمر النخل لذا قال ما قال، ولكنه صلى الله عليه وسلم تراجع عما قال، وترك الأمر لأهله الذين هم أعلم به منه.
لذا.. لو نظرنا إلى ما قاله أحمد مراد، وأسما شريف منير، ودفاع مثقف كبير مثل الدكتور مدحت العدل عنها، كما علمتنا الفلسفة بتجريد الأشياء من عللها الظاهرة القريبة، والبحث في عللها الأولى البعيدة، لوجدنا أن ما ذهبوا إليه يعد أمورا منطقية جدا كالتالي:
- في كتابه " حضارة الفرجة" توقع الكاتب البيروفي "ماريو فارغاس" زوال الثقافة وخسوف دور المفكر داخل المجتمع، وضمور العقل لصالح الصورة أو "الفرجة"، التي تعطى الأهمية كلها للترفيه والتسلية، وأن المفكر لن يحظى بأي أهمية إلا إذا ما ساير لعبة الموضة " أكل العيش"، وأصبح مهرجًا.
فهل يستطيع مثلا برنامج "أنا وبنتي" الذي يقدمه شريف منير وابنته، أن يستضيف روائيًا عظيمًا مثل صنع الله إبراهيم، أو مفكرًا كبيرًا مثل المستشار طارق البشري؟!
- هذا ما جعل "ماريو فارغاس" يؤكد أن الطهاة، مصممي الأزياء، نجوم الفن، ولاعبي الكرة استحوذوا على دور البطولة الذي كان رجال العلم والدين، والمؤلفون، والفلاسفة، يؤدونه فيما مضى، وأن السمعة السيئة للسياسة التي لا حدود لها في أيامنا هذه، أدت إلى هبوط المستوى الفكري، والمهني، وبالتأكيد الأخلاقي، للنخبة داخل المجتمع.
فصاروا كما قال أحمد زكي أو "علي" في فيلم "الحب فوق هضبة الهرم" للصحفي الكبير "عاطف هلال": إنتم أول ناس نطت من المركب وهي بتغرق، إنت واللي زيك من اللي كسبوا الدنيا وخسروا نفسهم".
- فأحد أدوار النخبة داخل المجتمع كما يحددها المفكر الكبير "إدوار سعيد" في كتابه "المثقف والسلطة": هو نقد وفضح الممارسات الخاطئة من أي جهة مهما كانت داخل المجتمع، لا أن يصوغ المثقف المبررات ويلتمس الأعذار ليعطي تلك الممارسات الخاطئة -سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية- المشروعية والصلاحية داخل المجتمع.
فحتى في السينما كان "المعتقل السياسي شخصا مثقفا حرا وتقدميا، لا يحمل السلاح، ولم يسع غالبًا لقلب نظام الحكم أو إحداث شغب، بل يكون في صورة شخص يخاف على وطنه ويريد له الحرية والتقدم". كما يرى الناقد الفني محمود قاسم في كتابه "الفيلم السياسي في السينما المصرية".
ولكن النخبة الآن لم تتجاهل فقط إنذار أسامة أنور عكاشة في آخر حلقة من رائعته " الراية البيضاء":
نداء
الجالسون على الرصيف حول فيلا أبو الغار بالإسكندرية ينادونكم للجلوس معهم، حتى لا يضطر الدكتور مفيد أبو الغار وفريقه الى رفع "الرايا البيضاء".
بل أصبحت تلوم الجالسين على الرصيف مع مفيد أبو الغار للدفاع عن العلم ضد الجهل، لمواجهة سطوة المال على الأخلاق والمبادئ والقيم، للدفاع عن الحق وأهله ضد الظلم واستغلال النفوذ، للحفاظ على تراث وعراقة الشعب المصري ضد تفاهة إعلام فقاقيع الصابون.
رضا نايل