الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

رضا نايل يكتب : أسطورة سيزيف | عبدالحميد شتا وزينب المهدي

الكاتب الصحفي رضا
الكاتب الصحفي رضا نايل

سخر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل من أرسطو قائلا: "ذكر أرسطو أن للنساء عددًا أقل من الأسنان ولكنه، على الرغم من أنه تزوج امرأتين، لم يكلف نفسه مرة أن يقوم بفحص فم أي من زوجتيه ليتحقق من صحة هذا الرأي المزعوم".

ونحن نفعل ما فعله أرسطو في كثير من القضايا.. ومنها ظاهرة الانتحار، حيث أصدرت منظمة الصحة العالمية في 9-9- 2019 تقريرا عن ظاهرة الانتحار حول العالم. وجاء في التقرير أن شخصا واحدا ينتحر كل 40 ثانية، وكشف التقرير أن مصر تفوقت على دول عربية تشهد نزاعات مسلحة وحروبًا أهلية حيث شهدت 3799 حالة انتحار في عام 2016، وتجاوز عدد الرجال المنتحرين أعداد النساء المنتحرات 3095 مقابل 704.

ولتجنب الوقوع في خطأ أرسطو فإننا لابد أن نفهم لماذا ينتحرون؟!

وهنا سنتوقف مع الروائي والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو، لأنه يرى أن السؤال الوحيد الذي يمكن اعتباره سؤالًا فلسفيًا هو: هل الحياة تستحق أن تعاش، ما جعله يؤكد أن الانتحار هو سؤال الفلسفة الأول.
وقد حاول كامو كتابه في " الإنسان المتمرد 1950" كما ترى –هالة رسلان- أن يفهم الأسباب التي تدعو الإنسان إلى الانتحار، فتوصل الى ما يسمى " المفهوم العبثي" الذي يقوم على أساس التناقض بين الإنسان والمحيط الخارجي، وشبه ذلك قائلا" بين الممثل والديكورات" ففي حال تمكن الإنسان من تفسير العالم تفسيرا مقنعا على الأقل يصبح هذا العالم في نظره مفهوما ومقبولا إلى حد ما، ولكن حينما يدرك الإنسان "وهم" هذا العالم سرعان ما يشعر على الفور بنفسه غريبا في الكون فيقف أمام سؤال: هل تستحق الحياة أن أعيشها ؟!.. وهنا يبدأ السؤال العبثي.

معتبرًا أن العبث يتغلغل في وعي الإنسان تغلغلًا مفاجئًا في اللحظة التي يشعر بها الإنسانُ بالفراغ، بإرهاق من الوجود اليومي أو الحياة اليومية، لأن الوعي في هذه اللحظة يتوقف عن استيعاب الغاية من هذه الحياة اليومية، وتنقطع سلسلة التصرفات الاعتيادية والروتينية. وفي هذه اللحظة بالذات، اعتبر كامو أن وعي الإنسان الذي كان راكدًا من قبلُ بدأ بالحركة والنشاط. والوقت هو أيضًا عامل آخر من عوامل العبث: فالإنسان الذي يعيش من أجل المستقبل، يدرك أن الوقت يتحول إلى عدو فكل يوم يمر يجعل الموت أقرب.

وفي رواية "السقوط 1956" يؤكد كامو أننا جميع مذنبون، وأن كل إنسان يداه ملطختان بالدماء لأننا جميعنا مسؤولين عن جعل العالم يغدو أسوأ مما كان عليه من قبل بسبب أنانية إنسان العصر الحديث، والبرودة والبلادة التي صارت تصيبنا مقابل مصائب الآخرين لوفرتها!

فـ "لا يقتنع البشر بأسبابك وصدقك وجدية عذابك إلا حين تموت، وما دمت حيًا، فإن قضيتك مغمورة في الشك، وليس لك أي حق في الحصول على غير شكوكهم".

ما قاله كامو عن أن أيدينا "الملطخة بالدماء" تؤكده:

- قصة عبدالحميد شتا الشاب المصري الذي انتحر بإلقاء نفسه في النيل في 18 يوليه 2003، وعثر على جثمانه بعد ثلاثة أيام عند منطقة القناطر الخيرية، وقالت القصة المتداولة آنذاك أن سبب انتحاره عدم قبوله للعمل في وزارة الخارجية رغم خوضه الاختبارات بتفوق، وأن رفضه تم بحجة :”عدم اللياقة الاجتماعية ” إذ ينتمي شتا إلى أسرة بسيطة اجتماعيا ووالده فلاح من قرية ميت الفرماوي بالدقهلية، وبعد شهرين من وفاة عبد الحميد شتا، نشرت الأهرام تحقيقا أجراه محمد البرغوثي، نقل فيه عن أحد زملاء شتا:

كان معروفا طيلة سنوات الدراسة بنبوغه‏,‏ ولم يعين معيدا لأنه لم يجد من يتبناه‏,‏ وكان مثالا مشرفا للباحث الممتاز بعد تخرجه‏,‏ ولكن كل مراكز الدراسات قبلته باحثا بالقطعة‏,‏ دون أدني أمل في التعيين‏,‏ وعندما أعلنت وزارة التجارة الخارجية عن حاجتها عام‏2002‏ لموظفين في التمثيل التجاري‏,‏ سارع عبدالحميد إلي تقديم أوراقه‏,‏ وقد ظل طيلة عام كامل يؤدي امتحانات مرهقة تحريرية وشفوية في العلوم السياسية والاقتصادية واللغات والكمبيوتر‏,‏ واجتاز كل الامتحانات بسهولة شديدة‏,‏ حتي تم اختياره ضمن‏43‏ متقدما فقط لشغل هذه الوظيفة المميزة‏,‏ وكنا جميعا نعلم‏,‏ أنه كان أكثر المتقدمين استحقاقا لشغل هذه الوظيفة‏,‏ وأنه سيتسلم عمله في التمثيل التجاري بعد أسابيع قليلة من آخر اختبار‏,‏ ولم يكن يخطر علي بال أحد أنه سيستبعد بمفرده في اللحظة الأخيرة‏,‏ بحجة أنه غير لائق اجتماعيا‏.

ويطلق كامو على ما فعله التونسي محمد بوعزيزي" الانتحار السامي" حيث أشعل بوعزيزي النار في نفسه احتجاجًا على مصادرة البلدية لمصدر رزقه الذي كان عبارة عن عربة صغيرة لبيع الخضروات والفواكه عليها، وعندما امتنع عن التسليم، قوبل بصفعة على وجهه على الملأ من قبل الشرطية فادية حمدي، التي وبخته.

فأشعل ذلك ثورات الربيع التي حاولنا أن ننظف بها "كل إنسان يداه ملطختان بالدماء" ولكنهم يفضلون القذرة والأوساخ .. حيث جاءت قصة انتحار الناشطة السياسية زينب المهدي في نوفمبر 2014 .. الفتاة ذات الـ22 ربيعا التي تخرجت في قسم اللغة العربية بجامعة الأزهر، عضو الحملة الرئاسية للدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح في انتخابات الرئاسة في 2012.. والتي كتبت في رسالتها الأخيرة إلى أحد أصدقائها قبل انتحارها: "تعبت استهلكت مفيش فايدة، كلهم ولاد كلب واحنا بنفحت فى مياه، مفيش قانون خالص هيجيب حق حد بس احنا بنعمل اللى علينا، أهه كلمة حق نقدر بيها نبص لوشوشنا فى المراية، من غير ما نتف عليها، مفيش عدل وأنا مدركة ده، ومفيش أى نصر جاى، بس بنضحك على نفسنا عشان نعرف نعيش".

ويأتي "ابن الزبال" الذي رفض الوطن أن يكون قاضيا...حيث قال وزير العدل سابقا المستشار محفوظ صابر حول هذا الأمر إن: "ابن عامل النظافة لن يصبح قاضيًا... كتّر خير والده إنه ربّاه، وساعده للحصول على شهادة، لكن هناك وظائف أخرى تناسبه"، مبررا ذلك قائلًا: "القاضي له شموخه، ويجب أن يكون من وسط محترم ماديًا ومعنويًا، وابن عامل النظافة لو أصبح قاضيًا سيتعرض لأزمات عدة، ولن يستمر في هذه المهنة".

ولكن "ابن الزبال" -الذي وددت كثيرا أن ألتقي والده لأقبل يده- كان كما قال كامو في كتابه " أسطورة سيزيف" الذي حكم عليه في العالم السفلي أن يجر صخرة كبيرة إلى أعلى الجبل ويراها تدحرج أمام عينيه من جديد ليعود ويجرها بدائرة أبدية لا تنتهي، هي ليست قصة يأس ولا جدوى وعبثية، بل هي قصة قبول وأمل وتحدٍ و كفاح مستمر، فعندما تقرأ قصته سترى بأنه كان يمكن له أن يضع حدًا لحياته بالانتحار، فحكم كهذا الحكم كفيل بأن يدفع الإنسان إلى الجنون من ثم إلى الانتحار.

لكن "سيزيف" فعل ما هو غير متوقع من قبلنا، ومنطقي ومتوقع تمامًا من قبله، اختار أن يستمتع في عذابه ويحوله إلى قبول حتى غدت كل الأجزاء التي تكونه وتكون الصخرة والجبل جزءًا من متعته في كل مرة يصعد بالصخرة ويراها تتدحرج من جديد يعود بخطى متثاقلة ويرفعا بعزيمة وهمة أكبر فقد وجد معنى لعذابه.

ولكن البعض قد ينتحر على طريق دوستويفسكي الذي قال:
- لم يعد في وسعي التحمل.. أعطني المسدس..
- ماذا ستفعل.. الانتحار خطيئة!!
- أي انتحار أيها الأبله، سوف أقتل الجميع.

رضا نايل