الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ملالي إيران وأمريكا: حرب أم مفاوضات؟


رغم أن سيناريو التصعيد العسكري الذي ساد لأيام عقب مقتل الجنرال قاسم سليماني قد تراجع كثيرًا، فإنه لا يمكن القطع نهائيًا بأن شبح الحرب بالوكالة بين نظام الملالي وأمريكا قد ابتعد تمامًا عن ساحة الصراع وميادينه المتوقعة، لأسباب واعتبارات عدة أولها أن إرادة طرفي الأزمة، ملالي إيران والبيت الأبيض الأمريكي، في تجنب الحرب ليست كافية تمامًا لانهاء توقعات الحرب لوجود أطراف متشددة أخرى قادرة على إشعال أزمة كبرى قد تتسبب في خوض الجانبين حربًا لا يرغبان فيها.

 وفي مقدمة هذه الأطراف بطبيعة الحال متشددي الحرس الثوري الايراني وميلشياته المنتشرة على رقعة الشطرنج الشرق أوسطية؛ صحيح أن قادة هذه الميلشيات يأتمرون بأوامر قادة الحرس ولكن يبقى العمل على تحسين شروط التفاوض المحتمل قائمًا، ناهيك عن الخطأ الحسابات وارد في ظل ديناميات عمل هذه الميلشيات غير النظامية التي تعمل أحيانًا وفي ظروف ولأغراض معينة، خارج منظومات الضبط والربط القيادية التي تخضع لها.

وفي قراءة متأنية لمفردات وتفاصيل المشهد الراهن في صراع الارادات الايراني الأمريكي يمكن القول أن التفاوض لا يزال هو الاحتمال الأرجح مستقبلًا، كونه الخيار الأقل تكلفة والأكثر تماهيًا مع مصالح طرفي الأزمة، لاسيما بعد أن حقق كلاهما ما يريد على المستوى العسكري بغض النظر عن التقييم الموضوعي المتخصص لما تحقق، فالرئيس ترامب قد اثبت بقتل الجنرال سليماني قدرته على اتخاذ القرار الصعبة الرادعة عسكريًا للنظام الايراني، وتلافي بذلك ثغرة ظلت تمثل ثغرة سياسية يستغلها خصومه في الحديث عن إدارته للملف الايراني، وهو في ذلك نجح إلى حد كبيرة. وعلى الجانب الآخر تفادى الملالي التعرض لضربة عسكرية أمريكية قاصمة وافلتوا من تداعيات كارثية لمقتل الجنرال قاسم سليماني في حال جازفوا برد عسكري غير مدروس على الضربة الأمريكية، واختاورا ردًا محسوبًا لم يكن متناسبًا مع ردود الفعل الايرانية ولا توقعات الشعب الايراني ولكنه جاء مدروسًا بدقة وعاسكًا لأولويات نظام الملالي وبراجماتيتهم الشديدة التي تضع مصلحة النظام وبقائه واستمراره في الحكم فوق أي اعتبارات أخرى.

والمؤكد أن طرفي الأزمة التي حلقت في أجواء الشرق الأوسط عقب قتل سليماني قد أدركا جيدًا ضرورة الاسراع بالعودة إلى قواعد اللعبة المتفق عليها بشكل ضمني، وأدرك الملالي تحديدًا أنهم اخترقوا تلك القواعد باستهداف السفارة الأمريكية في فعل يلامس ذكرى تاريخية سيئة للعقلية السياسية الأمريكية، ولم يدركوا أن الرئيس ترامب، بما يمتلك من سمات وخصال شخصية، لا يمكن أن يسمح بارتباط فترة حكمه بتكرار حصار سفارة أمريكية على يد الايرانيين، ومن ثم فقد أسهمت نقاشات مجلس الأمن القومي الايراني برئاسة المرشد الأعلى (للمرة الأولى) في لجم الاندفاع وتحديد الأخطاء والأولويات بدقة وواقعية شديدة، ومن ثم فقد اختار النظام رد عسكري محسوب لحفظ ماء الوجه مع التركيز على مسار سياسي قائم على فكرة إخراج القوات الأمريكية من العراق وهو مسار لحفظ ماء الوجه أيضًا لأن كل المعطيات تشير إلى صعوبة تحققه في المدى المنظور لما ينطوي عليه من تداعيات سلبية شديدة التأثير بالنسبة للولايات المتحدة.

قناعتي أن الكثير مما يحدث في فضاء العلاقات الايرانية الأمريكية في المرحلة الراهنة كان لا يزال يستهدف تحسين شروط التفاوض وتعزيز الموقع التفاوضي، لاسيما من جانب النظام الايراني الذي يدرك تمامًا أن قوته الأساسية في عوامل محددة منها هامش المناورة الكبير الذي يتمتع في مجاله الحيوي الاقليمي من خلال أذرعه الطائفية الميلشياوية، وقدراته الصاروخية التي يمكن أن تتحول في وقت زمني قياسي إلى قدرات صاروخية/ نووية، وكلا العاملين هما حاليًا هدف الاستراتيجية الأمريكية التي تسعى إلى تغيير سلوك نظام الملالي اقليميًا، مايعني بوضوح تجريده من قدراته الاقليمية والصاروخية، أو على الأقل الحد من قدرته على الحركة والتمدد الاستراتيجي وتقويض مصادر تهديده، لاسيما بالنسبة لإسرائيل، من خلال توسيع نطاق الاتفاق النووي ليشمل لجم القدرات الصاروخية الايرانية.

وقد ظل ملالي إيران يراهنون على قدرتهم على تحمل آثار العقوبات لاسيما أنها تطال الشعب بالأساس ولا تمس بقوة عصب النظام، ومن ثم فقد رسموا استراتيجية لكسب الوقت حتى انتهاء فترة الولاية الرئاسية للرئيس ترامب على أمل مجىء رئيس أمريكي جديد يعيد بلاده للاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس ترامب، وفي الفترة الأخيرة عملوا على صب الزيت على النار وسعوا بشدة إلى إضعاف موقف الرئيس ترامب في الداخل واساؤا فهم عقليته القيادية، وأردوا إشعال أزمات محرجة له مثل اسقاط الطائرة الأمريكية المسيّرة من دون طيار والتورط في العديد من عمليات استهداف ناقلات النفط وصولًا إلى حصار السفارة الأمريكية في بغداد واستهداف قواعد عسكرية أمريكية في العراق، وكانت حساباتهم في كل ذلك بمعزل عن حسابات الطرف الآخر (الرئيس ترامب) وقدرته على الرد والمناورة فضلًا عن كونها بعيدة تمامًا عن أبجديات التخطيط الاستراتيجي، فلم يتركوا للرئيس سوى المجازفة باتخاذ قرار قتل الجنرال سليماني لردع إيران ووقف التسارع الحاصل في تصرفاتها العدائية ضد بلاده.

الواقع أيضًا أن الرئيس ترامب قد لا يمتلك في الواقع بيئة داخلية تمكنه من شن حرب واسعة ضد إيران، بسبب صراعه مع مجلس النواب تحديدًا، فضلًا عن المواقف المترددة لحلفائه الأطلسيين الأوربيين، ورفض روسيا والصين للحرب مع إيران، ولكن الواقع يؤكد أيضًا أن الخيارات العسكرية الأمريكية ليس من بينها خيار الحرب المفتوحة أو الشاملة، بل ضربات عسكرية مشرطية خاطفة اعتمادًا على التفوق الصاروخي الأمريكي، وقد أشار إلى ذلك الرئيس ترامب صراحة حين تحدث عن استهداف مواقع ثقافية إيرانية ثم مالبث أن تراجع بعد أن تنبه إلى تعارض هذا الأمر مع القانون الدولي، ولكن الرسالة كانت قد وصلت إلى قادة الملالي، الذين تلقفوها ودرسوها جيدًا وبإمعان شديد، ومن ثم فقد حققت هدفها باعتبار أن الرموز الثقافية التي كان يعنيها الرئيس ترامب ربما يندرج من ضمنها مواقع وشخصيات أهم لدى النظام الايراني من القدرات والمنشآت العسكرية بما فيها المحطات النووية ذاتها! ويبدو أن الرئيس ترامب كان يقصد تمامًا إبلاغ هذه الرسالة لوقف ولجم جنون الملالي الذي بدا من خلال التواتر المتسارع في اشعال الغضب ضد كل ماهو أمريكي في العراق حتى قتل الجنرال سليماني.

في ضوء ماسبق، يمكن فهم إشارات التفاوض المتبادلة بين الملالي وأمريكا حتى في أشد لحظات الغضب والانفعال، فالرئيس ترامب يدافع عن قرار قتل سليماني ويشير إلى أنه "كان يخطط لشن هجمات على أربع سفارات أمريكية"، وأن إيران "كانت تدرس تفجير" السفارة الأمريكية في بغداد، بينما كان مبعوث الخارجية الأمريكية الخاص للشؤون الإيرانية برايان هوك يتحدث في بروكسل عن استعداد واشنطن لإجراء مباحثات بشأن الملف الإيراني، وقال هوك إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أعلن عن فتح الأبواب مجددا أمام الدبلوماسية الأمريكية للتفاوض في هذا الملف. وعلى الجانب الآخر كان المندوب الايراني في الأمم المتحدة مجيد تخت روانجي يغازل فكرة الحوار مشيرًا إلى "عدم جاهزية" الإدارة الأمريكية الحالية للحوار كونها "تناصب الشعب الايراني العداء".

هي إشارات صغيرة ولكنها تعني أن هناك اتجاهًا متبادلًا للتهدئة والعودة إلى لغة الاشارات المتبادلة تمهيدًا للجلوس على مائدة التفاوض، وأن أي إرجاء لهذه الخطوة لا يعني احتمالية الحرب بقدر مايعني أن شروط التفاوض للطرفين أو لأحدهما لا تزال غير مواتية.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط