الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

لماذا نحارب ظاهرة أغاني المهرجانات والحقبة التي تمثلها؟


من ليس له جذور يتظاهر أن به جذورًا هكذا الأمم العريقة تعرف قدر نفسها وقدرها من جذورها.

منذ بضعة أيام دخلت صفحتي على فيس بوك وكنت منقطعة عنها لانشغالي ووجدت ابنة خالتي، وهي بمثابة أخت كبيرة ليس بسبب القرابة ولكن لأن كلانا تربي تحت سقف ما كان يسمى قديمًا البيت الكبير للعائلة الكبيرة بكل أحداثه وذكرياته ووجدتها تضع بوست عن ابنة خال جدتي، وهي السيدة الفاضلة الراحلة عزيزة حسين، رائدة العمل الاجتماعي في مصر منذ بدايات القرن الماضي، ولها تاريخ يستحق مقالة منفصلة.
ولكنني وجدت نفسي مع هذا المنشور أو البوست أسترجع ذكريات جدتي والتي كانت تحدثنا عنها وخالها عندما كنا أطفالا في هذا المنزل الكبير، وبدأت الذكريات تتسارع الواحدة تلو الأخرى في سرعة غريبة وجدتي كانت هي رائدة وقائدة منزل عائلتنا الكبيرة في حي الدقي العريق بأصوله وجذوره وتاريخه.

وهذا الحي حدوتة أخرى جميلة وأقدس ذكرياته في حياتي حتى بعد انتقالي منه فهو ليس امتدادًا لحي ولم يأت فوق أنقاض حي آخر ولم يكن يومًا من الأيام عشوائيًا حتى في مناطقه البسيطة أو الشعبية منه. ناسه الأصليون تسكنهم الأصول وسلوكيات الأحياء العريقة.

ووجدت نفسي مع هذا المنشور أسترجع ذكريات طفولة وشباب وتوقفت كثيرًا وأنا لست من المتشدقين بالعائلات على الإطلاق كما هو حال كل المصريين بالرغم من جذور عائلتي الضاربة في العمق بتاريخها، ولكن فجأة انتابتني لوهلة مشاعر نوستالجيا وحنين لماضي طفولتي وتوقفت أنظر حولي وأسأل نفسي ما كل هذه المعاناة.
الثقافية، وما هذا العبث الفني والموسيقي الذي نعيشه؟ هل كُتب علينا أن ندفع أيضًا ثمن الإهمال الثقافي في العقود الماضية كما ندفع فاتورة العشوائيات الباهظة؟

وسألت نفسي لماذا لم أسمع في حياتي موسيقى المهرجانات التي تثير هذه الضجة والحملات ولماذا لا تستهويني أبدًا؟ ولم ولن أستطيع تذوقها ولو على جثتي؟ أرى أن هذه الموسيقى في انتشارها لا تفرق بين طبقة وطبقة وانتشارها ليس له علاقة بالطبقات كما يحاول البعض لصقها بالطبقية لإثارة الفتنة والبلبلة، فهي منتشرة في كل البيوت على حد سواء، وللتذكرة فمعظم كبار فنانينا جاءوا من خلفيات بسيطة ولكنهم أصبحوا عظماء وتاريخا وجذورا لوعي أبناء الوطن.

ولم أكن صغيرة بيت عائلتنا الكبير الوحيدة كانت ابنة خالتي وإخوتي وغيرهم، والذين أزعم بكل تأكيد أنهم راقون في اختياراتهم الموسيقية.

كانت أسرتي الصغيرة المكونة من أبي وأمي حاضنة في طفولتي وكانت عائلتي الكبيرة في بيتنا أكثر احتضانًا، وعندما أتحدث عن الاحتضان فهو احتضان على جميع المستويات والبعض الآن يعتقد أن الاحتضان هو المأكل والملبس والمصروف وتليفون محمول، ولكن الاحتضان في طفولتي يمتد حتى تشكيل وجداننا الموسيقي والفني، وذلك لإيمان أسرتي بالتعليم وقبلهم المستوى العقلي والثقافي لأفراد الأسرة والتوجيه المستمر والتربية.

 وعندما انتابتني مشاعر الحنين لطفولتي والحزن الشديد والغم بسبب كم الفوضى والعبث الذي نعيشه مع ما يسمى أغاني المهرجانات وكم عبث البعض بالدفاع عنه تحت مسمى حرية الإبداع وهم طبقة من مستنفعي العصر وكل ما يتملكونه اللهث وراء الموجات للاستفادة، ومعظمهم من فاقدي الرؤية لأي شيء، ينتظروم موجات الرأي العام ليركبوها بجهل.

أشعر بالحزن لأن الحرية ليس لها معنى مع فرض أنواع معينة على حساب الجذور والهوية، ثم يصرون على الحديث عن الحرية وهم يقطعون كل أواصر الجذور والهوية، الحرية تأتي مع التنوع المسئول وليس تنوع العشوائيات، وتأتي الحرية بكل وضوح مع وضوح الهوية.

وتذكرت رحلة عائلتي الشهرية لمسرح سيد درويش بحي الهرم، وذلك قبل بناء الأوبرا في الثمانينات للاستمتاع بفرقة أم كلثوم وفرق الموسيقى العربية وأنا طفلة صغيرة جدا وربما لم أدرك ما هذه التجربة، ولكنها لم تكن
اختيارًا فهذه رحلة ثابتة للعائلة الكبيرة تعلمت منها احترام المواعيد واحترام سلوكيات حضور حفلات الأوركسترا وتعرفت من خلالها على تاريخ موسيقى مصر الحبيبة وتعرفت على أسماء كبار المغنيين والملحنين وكبار الشعراء والأهم التذوق الموسيقى والأذن الموسيقية حتى وإن تغير ذوقي بمرور السنوات بحكم الدراسة والسفر حتى أصبحت مثلًا أعشق الموسيقى البرازيلية، وأعتبرها أفضل أنواع الموسيقى العالمية، ولكن ما أوصلني لها كانت جذوري وتذوقي جاء لأني تذوقت جذوري العريقة.

ولأني أعلم أن لي جذورا أنحني لها ولا أقبل أن يقوم أي أحد بإهانتها في أي توقيت ولا أقبل أن يقلل منها أحد تحت أي مسمى، أبجلها وأنحني لها تقديرًا واحترامًا وأعتبر احترامي لها من احترامي لذاتي ولنشأتي وجذوري الأسرية.

تعلمت تلقائيًا من جذوري أن أحترم موسيقى الجذور في المجتمعات الأخرى. تلقائيًا أحببت فرقة البيتيلز الإنجليزية.
بالرغم من أن سنوات ذروتها لم أكن قد وُلدت وتلقائيًا كنت عشقت فرانك سينترا وتلقائيًا لم أجد صعوبة في تذوق أي موسيقى من جميع أنحاء العالم، فمن يحب جذوره يحب جذور الآخرين لأنه تقدير وثقافة تتخطى الزمن والمكان.

ومن يحترم جذوره لا يجد صعوبة في تذوق الموسيقى بكل أشكالها، ولكنه يجد صعوبة في الفوضى والفوضويين والعاجزين الذين يخفون جهلهم وتدنيهم الثقافي خلف ما يسمون حرية الإبداع وهم لا يعلمون شيئا عن الإبداع ويخفون كسلهم وكسل أسرهم وتقصير عائلتهم في فرض أي ثقافة لأن الأسهل في كل شيء العشوائية والفوضى.

الرقي يحتاج مجهودا كبيرا ويحتاج وعيا ويحتاج كثيرا من احترام الذات وهي أدوات لا يملكها أسر قد قامت بتسليم صغارهم للسوشيال ميديا وأي أماكن يتخلصون بها من صداع صغارهم.

وجدت بين أصدقائي الأوروبيين من يستمعون إلى موسيقى أغاني البوب وفي نفس الوقت يقدرون الموسيقى الكلاسيكية، وفي تلك اللحظة أتاكد من المستوى الثقافي والأسرة التي نشأوا فيها وهي أسرة تشبه أسرتي، مرة أخرى ليس لها علاقة بالطبقة لا في داخل مصر ولا خارجها.

كنت محظوظة بأسرتي وتأكدت من ذلك في كل مرة غادرت فيها مصر للإقامة في بلد مختلف بسبب عملي، الكل يحترم مصريتي لأني أحترم تاريخي ويحبني لأني أنصهر في ثقافات الآخرين وأتذوقها باحترام وأستمتع بها وأتعلم منها.

من تربى على الجذور لا يتعالى ولكن عنده القدرة على التذوق، ومصريتي التي أحترمها أصدقائي من مختلف الجنسيات تأتي في أشكال كثيرة منها، بالتأكيد احترام الهوية الموسيقية وهنا تأتي درجة الصعود الحضاري والثقافي ليكون أي مصري ومصرية على مستوى أي مجتمع يواجهه في أي مرحلة من حياته.

لا يوجد أحد يستطيع أن يواجه أي هوية دون معرفة هويته وجذوره والفخر بهذه الجذور، حتى لو كان له توجه آخر في الحياة وذوق آخر مختلف تمامًا أن أعلم ثم اختار وهذه هي الحرية الحقيقة.

وهذا النوع من الحرية لا يعطي المجال للابتذال أبدًا هي نوع من الحرية يلفظ الانحطاط تلقائيًا، والحقيقة نحن محظوظين بمصر وبتاريخها الموسيقي والذي نفخر به ويفخر به كل العرب ولم أقم بزيارة دولة عربية، إلا ووجدت جزءا من تاريخنا وكبار فنانينا يشدون في المطاعم والمقاهي يملاؤن الحياة حياة وبهجة بأصواتهم الجميلة.

فجوة صادمة بين حاضر مجتمع وتاريخه يصر فيه البعض على قطع الصلة بين الاثنين حتى نقع أسرى وسجناء فن الفوضى ومجتمع لا يشعر ولا يتذوق ولا يوجد في ذرة في جسده قابلة للارتقاء أو التذوق الموسيقى.

إدمان التدني يمحي الإحساس ويمحو التطور وفرص الارتقاء ويؤدي إلى طريق من العزلة الفنية والثقافية للشعوب تنظر إليها المجتمعات الأخرى على أنه تخلف لأنه حتما ما سيظهر ما هو راقٍ ومشبع للإحساس، ولكن سيكون قد مات الإحساس وشبع موت لمجتمعات تشبعت بالإحساس مثل موسيقى المهرجانات وموسيقى الإدمان.

رقي الذوق يحتاج مجهودا في زمن الديلفيري، وفي زمن السوشيال ميديا ولأسر تسلم صغارها للرائج دون تفكير، الارتقاء والإبداع في أي اتجاه يحتاج كثير من المسئولية التي يهرب منها الكثيرون.


لن تدفع مصر ثمن فاتورة الإهمال الموسيقي، والذي استمر لأكثر من ٣٠ عامًا لتظهر لنا أجيالًا منعزلة منفصلة عن العالم الكبير.

أجيالًا تجهل تاريخها وجذورها، وهذه الجذور بكل صدق الضامن الوحيد للبقاء والاستمرارية والعطاء والإبداع والحرية، من يعزلنا عن جذورنا يقودنا إلى مستقبل ضبابي تقتلعه أول عاصفة يغرق مع أول موجة، ولا منه طال ماض مشرف ولا مستقبل له أي ملامح.

وأنا متوقفة عند منشور ابنة خالتي عن السيدة عزيزة حسين وفي لحظة استرجاعي لبعض ذكريات طفولتي وبيت عائلتنا الكبير، انتابني شعور غامر بالامتنان لأسرتي حتي بعد أن اخترت حياة مستقلة. جذوري تحميني وتؤكد هويتي في كل مكان وزمان وتمكني من احتواء كل الثقافات والحضارات بتقدير وثبات لأني أعلم أين أقف، كانت أسرتي المصل الواقي ضد التدني والانحدار طوال حياتي داخل وخارج مصر، وإذا لم تعد الأسر تقوم بدورها، فعلى الدولة القيام بهذا الدور حتى تستقيم الأمور.

أقف قلبًا وقالبًا مع وقفة الفنان الكبير هاني شاكر، نقيب الفنانين، في حربه ضد أغاني المهرجانات، وهي ليست بحرب ضد أشخاص بالمناسبة حتى لا تأخدنا عبارات الاستعطاف ضد أشخاص فهي وقفة متأخرة جدًا وهي موجة عالية علينا جميعًا كموجة المتطرفين، وهي ليست بوليدة اللحظة ولكننا لن نقف مكتوفي الأيدي لأن هذه هو الواقع فهذا ليس واقعا، هذه مأساة ونكبة وليست بفرحة كما ينعتها البعض، هذا هو التعريف الحرفي للانحدار والإهمال وثقافة الاستسهال، وهو ما لا يليق بمصر تحت أي مبرر أو أي ظرف.


نقف في هذه الوقفة تقديرًا لأجيال سابقة بذلت أقصى ما عندها ليسمو الفن المصري عاليًا وتسمو مع مصرنا الغالية، وأقف مع هذه الوقفة لأقف لأسرتي احتراما وعرفانًا لمجهود بذلوه في التربية والتثقيف في زمن اللا تربية.
ولا ثقافة ولإيمانهم بأن لهذا الوطن جذور حافظوا عليها في زمن يموت البعض لاقتلاع هذه الجذور ونقف دفاعًا لاستحقاقنا واقع أكثر رقيًا وتنوعًا وأكثر حرية، وللتأكيد أنه لن تعلو موجه فوق هويتنا المصرية الفنية الأصيلة المبدعة وجذورها مهما كثر الابتذال والمدافعون عنه شكر كبير لعائلتي وشكرًا للفنان الكبير هاني شاكر، جذورنا وهويتنا تحييك.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط