قال الدكتور على جمعة، مفتى الجمهورية السابق، عضو هيئة كبار العلماء، إن الذباب يذكر بفريق من الناس لم يجد له أسوة إلا في الذباب بهذه الصفات المذكورة؛ فإذا شعر أحد من الناس في نفسه أنه كذلك فالنصيحة له أن يتدارك نفسه وأن يخرج من هذه القدوة السيئة والتأسي المنحرف.
وأضاف " جمعة " في منشور له على صفحته الرسمية بموقع " فيسبوك" أنه ينبغي لبعض الناس أن ترجع إلى البشر وإلى أسوتهم الحسنى؛ فينتمي إليهم بشعوره ووجدانه ويزيد من مساحة الحب في قلبه بدلًا من الحقد والكبر والاضطراب.
وتابع عضو هيئة كبار العلماء: وإن كان شعور الذبابيين بذلك لن يأتي إلا بأمر الله وهدايته؛ لأن المفترض أنه بليد الحس والشعور، لافتًا: اللهم لا تجعلنا منهم وقنا شرهم.
وأوضح المفتى السابق أن من صفات الذباب أنه يقف على كل شيء، على الأقذار وعلى الطعام وعلى الأجسام، على السائل والجامد، لا يبالي أين وقف، ولا من أين يأخذ ما يأخذ، ومن مثال ذلك أننا نراه يلتف حول الجيد ويلتف حول الرديء ويمكن مع كثرته لا نعرف على ماذا يقف على حلوى أو قمامة.
وواصل: لذلك في عالم الإنسان لم تكن الكثرة أبدا مقياسًا للحق، فكم رأينا باطلًا قد التف الناس حوله التفاف الذباب على القمامة، وكم رأينا حقا قد خلا من أي تبع، قال - تعالى- : ﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ ﴾ [سورة المائدة : الآية 100].
واستشهد الدكتور على جمعة بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : « عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ وَالنَّبِىَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلاَنِ وَالنَّبِىَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ». [رواه مسلم].
وأكمل: فالحق حق ولو لم يتبعه أحد، والباطل باطل ولو اتبعه الناس أجمعون، وإن كانت هذه القاعدة البسيطة أصبحت عند كثيرين محل نظر ومناقشة على الرغم من أنها قاعدة غاية في الخطورة وهدمها يخفي وراءه الشيء الكثير.
وأفاد عضو هيئة كبار العلماء: يذكرني الذباب بالفرق بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى؛ حيث نجد في حضارتنا وموروثنا هذه الأداة التي ندفع بها الذباب مصنوعة من شعر الخيل، والدفع بها إما أن يبعدها وهو الغالب، وإما أن يقتلها ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الحشرة تريبة وفي موضع معين.
وأبان: في حين أن الأداة التي عند الآخرين صنعت من بلاستيك ـ وقد شاعت فينا لما تركنا فلسفة حضارتنا وأنها كانت حضارة رحيمة بالإنسان والأكوان ـ وهذه الأداة الأخرى تقتل مباشرة، وأداتنا عند القتل لا تحطم الجسد وهذه تحطم الجسد تحطيما شديدًا، وأظن الأمر على بساطته يحتاج إلى مراجعة شاملة.
وألمح: يذكرني الذباب بعيونه المركبة التي ترى من كل اتجاه؛ بأنه ليس مثالًا للمؤمن الذي أمر بغض البصر وعدم التدخل في شئون الآخرين وعدم التلصص عليهم قال تعالى : ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ ( النور : 30]، وقال سبحانه : ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾ [ق : 45] ، وقال جل شأنه : ﴿ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء : 80].
واستدل المفتى السابق بقول الله - سبحانه وتعالى- : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج : 73].
ونوه الدكتور على جمعة أن هذا النوع من المخلوقات التي تبين قدرة الله ويضرب الله بها الأمثال للناس لعلهم يتفكرون لما كان هذا النوع شائعا، فقد أعطى رسول الله ﷺ حكما يدل على عالمية الإسلام، وأنه لكل زمان ومكان، ولكل الأشخاص في جميع الأحوال وأنه دين الرحمة والعفو، وأنه دين اليسر والتيسير والرفق، وأنه دين حياة.
واستند إلى قول رسول الله ﷺ فيما أخرجه البخاري في صحيحه : (في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء) والأصل عند وقوع ميتة في أكل أو شرب أن هذا الطعام ينجس فلابد من إلقائه وعدم أكله؛ لأن أكل النجس حرام، هذا هو الحكم الأصلي، واستثنى منه هنا الذباب لأنه بشيوعه وعموم البلوى به، ورأفة بالفقراء في دول الجفاف أو بالبدو أو حين الكوارث والحروب أو المجاعات؛ لأنه لو وقع الذباب في إناء واحد منهم ولم يكن الحكم جواز أكل ذلك لوجب عليه أن يهدر الأكل الذي هو في أشد الحاجة إليه.
وأردف: فكان وراء هذا الحديث الذي يأنف منه كثير من الناس حكمًا رحيمًا بآخرين، وهذا أساس لهم لفهم النصوص الشرعية، فالحديث ليس فيه إلا توجيهًا يخفف عن من ابتلى بشيء من ذلك، أما أنا فأنا ائنف أن أغمس الذباب في أكلي ولا أفعله؛ لأن هذا ليس أمرًا شرعيًا جاء به الشرع وألزمني به، بل هو رخصة ورحمة تثبت ما ذكرناه.
وأشار إلى أن كثير من الناس لا يفرق بين المستويين، مستوى الرخصة التي تناسب عالمية الإسلام، ومستوى الواجب اللازم أو المندوب المطلوب لإقامة حياة أكثر سعادة، وهؤلاء على ثلاثة أقسام: قسم حول هذا إلى ذاك ودعا إليه شريعة، وقسم أنكر فمنهم من رفض أن يكون هذا حديثًا، وقسم اعترض على الإسلام في ذاته.
ونبه عضو هيئة أن قواعد فهم الشريعة مهمة للغاية في هذا المقام، فهي لا تجعل هناك إرهابًا فكريًا عند سماع ما تأباه النفوس أو تعافه الثقافات، بل الشأن حينئذ التفكر والتدبر والسؤال وليعلم من ينكر هذا أنه لم يرتكب إثما بسؤاله فقد علمنا سيد البشر ﷺ أنه كان يعاف بعض الطعام ولا يحبه ويترك غيره يأكله.
وتابع: فأبى أن يأكل الضب فعن ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : « دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأُتِىَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ. فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللاَّتِى فِى بَيْتِ مَيْمُونَةَ أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ . فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَهُ فَقُلْتُ أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « لاَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِى فَأَجِدُنِى أَعَافُهُ » . قَالَ خَالِدٌ فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَنْظُرُ . [متفق عليه]، وأبى أن يأكل الأرنب لمجرد إشاعة حولها وهي أنها تحيض، فعن عبد الله بن عمرو : « َإِنَّ رَجُلًا جَاءَ بِأَرْنَبٍ قَدْ صَادَهَا فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو مَا تَقُولُ قَالَ قَدْ جِىءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا جَالِسٌ فَلَمْ يَأْكُلْهَا وَلَمْ يَنْهَ عَنْ أَكْلِهَا وَزَعَمَ أَنَّهَا تَحِيضُ ».
وأشار الدكتور على جمعة، مفتي الجمهورية السابق، عضو هيئة كبار العلماء، في منشور سابق على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي بموقع " فيسبوك " إنه في معاجم اللغة تحليل لطيف لتلك الحشرة التي تعلمنا الصبر، وهي حشرة الذباب؛ حيث إنها سميت بذلك لأن هذا النوع كلما ذبه الإنسان عنه وأبعده، يعود إليه مرة أخرى.
وبين " جمعة "ن الذباب لا يدرك أنه غير مرغوب فيه، وأنه قد أُبعد منذ لحظات في محاولة لطرده، بل قد تكون المحاولة لقتله أيضًا، وهذه الصفة تجعل منه حشرة رذيلة، وهذه الرذالة تعني أنها لا تدرك شأنها وعلاقة الآخرين بها.
وتابع المفتي السابق: ولما كانت لا تدرك ضعفها ولا رغبة الآخرين في إبعادها بل وإبادتها فإنها تتصرف تصرفا غبيا، وعدم الإدراك مع الغباء يدل على أنها منعدمة الشعور والإحساس مع شيء من البلادة.
وذكر أن الله - عز وجل- تحدث عن الذباب في كتابه الكريم ضاربًا به المثل حيث جمع بين الضعف وهذه الصفات التي تجعل المقابل له ضعيفا أيضا من شدة إصراره على العود وعدم اهتمامه بشعور الآخرين.
وواصل: كما أنه عندما يسلب منا شيئًا من طعامنا أو شرابنا، بل من دمنا إن كان من نوع مصاص الدماء ؛ فإننا لا نستطيع أن نصل إلى استرداد حقوقنا منه سواء أخذها وطار ،أو جعلناه تحت أيدينا وقتلناه، فإننا في جميع الحالات لا نقدر على رد حقوقنا، فالمصيبة قد حلت بتسلطه علينا وسلبه منا ما استطاع أن يسلب، مشيرا إلى أن بعض الخلفاء سأل الشافعي - رضي الله عنه-: لأي سبب خُلق الذباب ؟ فقال : مذلة للملوك، وكانت ألحت عليه ذبابة، فقال الشافعي: سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطته من الهيئة الحاصلة.
ونبه الدكتور على جمعة أن الله - سبحانه وتعالى- تحدث على الجانب القدري في تسليط هذه الحشرة على الإنسان، وأنه على الرغم من ضعفها وقلة حيلتها وصغر جسمها إلا أن من دون الله لا يقدر أن يخلقها، بل هي مخلوق لله، بهذه الصفات التي جعلتها كثيرة منتشرة بالرغم من كل أنواع المقاومة التي عرفها الإنسان ابتداء من (المنشة) و(المرزبة) وانتهاء بالمبيدات الحشرية المنتشرة في العالم، وما بذلته الصين للقضاء على الذباب والعصافير المسلطة على المحاصيل الزراعية.
واستكمل أن من أشهر الحملات التي شنت للقضاء على الذباب تلك التي نظمها الأمريكيون قبل الحرب العالمية الأولى؛ حيث كانوا يخصصون خمس دقائق في اليوم لقتل الذباب واصطياده.
وواصل : هكذا كانت تدق الأجراس وصفارات الإنذار كل يوم في الساعة الواحدة إلا خمس دقائق زوالًا، فيخرج الجميع لأداء هذا الواجب طيلة خمس دقائق يعودون بعدها إلى أعمالهم، لافتًا: وكانت تعرف هذه العملية في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، باليوم الوطني للذباب.