الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. هادي التونسي يكتب: دوڤيلپان.. السياسي الشاعر الإنسان

صدى البلد

"احمل هذا المساء أكاليل ثلج... / يا رجلًا حرّمت عليه الاستراحة / يا رجلًا لا ينام".
"أنتِ..
قريبةً مني، هناكَ حيث لا أريدُ أنْ أكونَ، غالبًا ما تقفـينَ.
أنتِ بسبب الخوْف لا توجَدين في العالم، وأنا باللامبالاة والجرأة"
"القلبُ في الليل كأعرجَ القلبُ يريدُ أنْ يتيهَ وحدهُ."


هل إذا قرأت هذه الابيات تتخيل ان ناظمها رئيس وزراء كان قبلا وزيرا للخارجية و الداخلية و دبلوماسيا فرنسيا، ولد في المغرب، ودرس في فنزويلا و نيويورك، و حصل في باريس علي دراسات عليا في الأدب و القانون و الإدارة ، و عمل دبلوماسيا في نيودلهي وواشنطن؟.


كيف يمكن لكاتب و روائي و شاعر حداثي ان يجمع بين رفاهة الحس و بحار الخيال و تأجج العاطفة و شغف الوجدان وأعلي مهام سياسية  تنغمس في تفاصيل مشاكل الحياة اليومية لمواطنيه و وحشية مصالح المال و الأعمال و السياسة، و يؤلف بينهم كسياسي شاعر متوافق مع ذاته ومندمج مع الواقع و مع المعاني الانسانية الشاملة؟.


المولد في الرباط عام ١٩٥٣، و نشأة دومينيك دي ڤيلپان البورجوازية، سليل أسرة نالت أوسمة وطنية ، و تنقله بين دول العالم مولدا ودراسة و عملا جعلته عالمي" الهموم، راسخ الجذور ومقتلع في آن واحد، يجمع بين قضايا العالم ونواحيه. و يطلق جرأة الشاعر و تجرد الإنسان في وجه القوة العظمي الأوحد.


ففي عام 2002 تولى دوفيلبان وزارة الخارجية وذاع صيته بعد الكلمة التي ألقاها أمام مجلس الأمن الدولي وأكد فيها رفضه الغزو الأميركي للعراق، كما دخل في سجالات مع وزير الخارجية الأميركي كولن باول، وفند الادعاءات الأميركية بعلاقات العراق بتنظيم القاعدة وامتلاكه أسلحة دمار شامل.


ومن عبارات دومينيك دوفيلبان التي اشتهر بها "أوروبا العجوز ترفض خوض حرب جائرة باسمها"، وكان بذلك يرد ضمنا على نائب الرئيس ديك تشيني حين قال إن "أوروبا العجوز (فرنسا وألمانيا) ليست متحمسة للحرب مقابل أوروبا الشابة التي في مقدمتها إسبانيا".


رؤيته الرافضة للحرب ودعوته الى المشاركة في ادارة شؤون العالم وليس الى السيطرة عليه، منحتا خطابه طابعًا رسوليًا أو "إنسانويًا" لم يعد مألوفًا في الحياة السياسية. ولعلّ هذا ما لفت اليه أنظار أهل الثقافة في العالم أجمع، وأنظار المثقفين العرب الذين أيدوا أصلًا موقف فرنسا وحلفائها المعادي للحرب الراهنة.


هو شاعر أيضًا وربما أولًا، وصاحب أكثر من ديوان ومقالات في الميدان الشعري والأدبي. لكنه يؤثر دومًا ان يدع وجه الشاعر سرّيًا أو شبه سرّي، إيمانًا منه بأن العصر الراهن، عصر البربرية واللامبالاة - كما يصفه، وهو عدو الشعر والمخيلة والحلم، فيما الشعر، "بحث عن حقيقة وراء المرايا، تمنحنا نعمة الكشف والانبعاث".
 

وكم ردّد في المؤسسات الدولية: "القوة وحدها، هي قوة بلا جدوى"، وكم دعا الى رفض الفكرة الرائجة عن "قوة" الغرب. فهو الذي أصرّ على الغرب ان "يرتقي بنفسه"، يدرك جيدًا ان "الغرب ليس الألفا والأوميغا للحياة على الأرض" كما يعبّر.


إلحاح الشعر أو الكلام عن "شعرية" السياسة لدى دومينيك دو فيلبان قد يكون مغريًا جدًا، لكنّ الكلام عن تجربته الشعرية شبه المجهولة قد يكون أشد إغراء، كون الشاعر الكامن فيه هو الذي يصنع السياسي المعلن فيه. وقد تكون مفاجئة وجميلة صورة الوزير - الشاعر، التي سعى الشاعر المغربي محمد بنيس الى إجلائها عبر الديوان الذي أصدره للوزير الفرنسي تحت عنوان: "قصائد مختارة" بالفرنسية والعربية بيت الشعر في المغرب، 2003 .


إن شعر دوفيلبان يحتاج الى أكثر من قراءة أو مقاربة لأنه يضمر حالًا من التساؤل الشعري والتأمل والتجريد. وهو لا يخلو من بعض الغموض الحيّ وليس المصطنع، والذي يعود الى طبيعة الشعر نفسه والى رسالته الجوهرية وكينونته. فالشعر يمثل حقيقة الشاعر كما يتلبسه دوفيلبان نفسه. 


يعتبر دومينيك دو فيلبان ان الشعر يساعد الانسان المعاصر على مواجهة تحديات عدة أولها تحدي الحياة نفسها. أما التحدي الثاني فهو "تحدي اللغة"، اللغة "التي تمنح أدوات عجيبة لفتح غطاء العالم" ولكن بعيدًا من "الكلمات المألوفة والمزيفة بالأكاذيب وتجارة الحياة اليومية.ويرى دو فيلبان التحدي الثالث في الحداثة. فالسؤال الكبير الذي يطرحه الشعر يتمثل "في معرفة كيفية استدامة الكلام الحيّ". 


والحداثة لا يعني بها دو فيلبان الحداثة الشعرية فحسب وإنما الحداثة الإشكالية التي تشمل العالم والحياة والانسان والمجتمع والفكر.
يسأل دو فيلبان: "أما زال من الممكن إبداع قصيدة في عالم الأنانية؟". وفي نظره ان "البربرية واللامبالاة يهددان القول الشعري"، وفي إزائهما يجب على "الشعر ان يحفر ويصرخ باستمرار، وان يعثر ثانية على حماسته في معرفة السبل الجديدة". وهكذا يصبح من الممكن ان يسكن الانسان الأرض شعريًا.


وإذ ينتهي من ايضاح التحديات الثلاثة يمضي دو فيلبان في تحديد الشعر ، ولكن عبر مفهوم حيّ ومتطوّر وغير مغلق. فالشعر أولًا "إلهام وحيوية" ثم هو "تمرين على التزهد والتجرد والمحو"، ثم هو سليل "العزلة والصمت والغياب في عالم مرهف بالصخب والهموم". لكنه لن يخلو من "العنف الحميم"، فهو منفتح على التبادل وبعيد عن نزعة انغلاقه على نفسه: الشعر أخذ وعطاء، كبرياء وتواضع.


الشعر قادر كما يقول، ان "يحمل العبء الانساني الثقيل، عبء الأحياء والأموات، عبء المسرّات والآلام" عبر نَفَسه القوي. الشعر يسعى الى الإضاءة أيضًا وينطلق من "الأسفل والأدنى" أي من "ناحية اليأس" ليمضي نحو الأمل والرجاء. والشعر الذي تجمع طبيعته بين الكوني والشخصي، يجب ان يظلّ في "حال انشغال دائم" وفي "حال استكشاف فضاء جديد، للحرية والأخوّة". وإذ كان الشاعر، كما يصفه دو فيلبان "سيّد الاشياء الاكثر خفاء" و"سارق النار" فهو ايضًا "حامل الماء" وملزم باستعادة "الشعر حيًا"، وببعث "الحياة والدم" داخل الكلمات.


يميل شعره الى بعض الغموض العميق  رغم انفتاحه الانساني. فهو ابن الذاكرة الغريبة والمخيّلة المحلّقة، يؤالف بين المتناقضات بحثًا عن سرّ الأشياء ولغز العالم.موضوعات لافتة كالمنفى والرحيل والعبور، لكنها هنا متحررة من معانيها الضيقة والزمنية والمكانية وضاربة في "صحارى الألوان" والجزر الغارقة والأراضي المندثرة.


تحتاج قصائد دومينيك دو فيلبان قراءة متأنية، فهي أشبه بالمرايا التي تنعكس على صفحاتها معالم طفولة موحشة وملامح عالم بدائي وقسمات وجوه مضاءة بالدم وأطياف أناس مجهولين. فالغنائية تستمر حتى في أشد قصائده غموضًا، مرسخة مناخًا سحريًا هو مناخ الشعر الباحث عن الحقيقة الغائبة والسر الأبدي.

 
أتاح الشاعر المغربي محمد بنيس مفاجأة في اكتشاف وجه الشاعر في شخص وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دو فيلبان. وهو وجه مشرق وبارق لا يقل صفاء وعمقًا عن وجه السياسي اللامع وصاحب المواقف العظيمة التي ستسجل له ولوطنه فرنسا. وقد يكون أجمل ما في الوجهين تلاحمهما وكأن الواحد ظل الآخر أو ضوؤه. وفي هذا القبيل يقول فيلبان: "في صميم الشعر والسياسة، نجد ذاك السعي وتلك الرغبة في التقدم واستباق الأمور". وكم نجح دومينيك دو فيلبان في ان يكون شاعرًا في مواقفه السياسية العظيمة، في مجلس الأمن وخارجه، وفي ان يكون سياسيًا عميقًا في قصائده الحالمة بفجر إنساني جديد تضيئه شمس الأمل ونار الرجاء.


اشتهر دوفيلبان -فضلا عن صيته السياسي- بكونه شاعرا وروائيا وكاتبا، وتشهد على ذلك أعماله المتنوعة، ومن أشهرها: "المائة يوم أو روح التضحية" وهو عمل سردي صدر في 2001، يعرض لآخر أيام الإمبراطور نابليون بونابرت الذي لا يُخفي دوفيلبان إعجابه بشخصيته وبإسهامه في مسار فرنسا السياسي والتاريخي. وقد نال هذا العمل جائزة مؤسسة نابليون وجائزة السفراء.


وله كتاب "عالم آخر: مجموعة خطابات تتناول التغيرات السياسية على الساحة الدولية وغزو العراق والبناء الأوروبي"، و"تاريخ الدبلوماسية الفرنسية" (عمل مشترك).


كما كتب دوفيلبان عدة قصائد منها "من أجلكم" التي تناول فيها سيرة المقاوِمة الفرنسية الشهيرة جان دارك كرمز للشجاعة والتضحية من أجل فرنسا. وقد ترجم الناقد والشاعر المغربي محمد بنيس عددا من قصائد دوفيلبان كما كرمته مؤسسة بيت الشعر التي يرأسها بنيس. 


بهذه السيرة قدم دوڤيلپان مثلا لقدرة الانسان ان يكون وطنيا متفانيا و عالميا انسانيا، سياسيا واعيا شجاعا و إنسانا متوافقا مع ذاته، ان يجمع بين تدبير و ادارة و دهاء الساسة و رقة و نعومة اسلوب النبلاء و رومانسية و حس الشعراء و عمق و تجرد الفلاسفة، وان يختبر في كل ذلك و بشدة من خلال مسيرة علمه و عمله و حياته بنجاح حتي غادر المشهد السياسي عام ٢٠٠٧ متفرغا للشعر والمحاماة.


بعد تركه المناصب السياسية و عمله كمحام  نشرت صحف فرنسية انه للأسف  قدم للأسرة الحاكمة باحدي الدول الخليجية المناوئة استشارات إعلامية و مالية  لقاء مبالغ سخية. ربما لا يتفق ذلك احيانا مع مصالح مصرية حالية،لكنه مواطن فرنسي و لبلده ،شأنها شأن دول غربية كبري ، مصالح مالية و استثمارية ضخمة مع تلك الدولة تتأثر بها المواقف السياسية، و السياسة سواء مزدوجة او استراتيچية وثيقة هي لعبة مصالح. و بالتالي فتورطه في هذا العمل امر مثير للجدل، لكن يبقي ان مسيرته قبل التخلي عن المنصب العام قدمت مثالا إيجابيا ، و ان السياسة الخارجية تحتاج الي متعددي الثقافات الذين يستوعبون العالم في قلوبهم بحب و بمسئولية إنسانية متوافقة. و كم نحتاج كعرب و يحتاج الغرب معنا لمن تجمع الكل تجاربه و ثقافاته ! و كم تحتاج السياسة الي مواطن متفان بعقل فيلسوف و قلب انسان!