الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

رضا نايل يكتب: أيامي البعيدة

صدى البلد

في صباح خريفي والشمس تلفها سحب رمادية رقيقة، والهواء يحمل لسعة ناعمة من البرد تُشعرني بلذة وهي تلامس وجهي، رأيتكِ تغلقين البوابة الحديدية القديمة التي تسكوها طبقة من الدهان الرطب الممزوج بالأتربة، وعندما طرقتها لم يجب أحد، فظللت أطرق وأطرق حتى طُبِعَ كفاي عليها، والتصق بهما الدهان الأسود، فأخذتُ أقلب عينيِّ بين نوافذ المبنى المليئة بالخِرق التي تسد زجاجها المكسور، والشمس قد اختفت وراء السحب التي صارت سوداء قاتمة، وبدأت السماء المكفهرة المتهجمة تمطر، والأمطار تنكسر على البوابة فتنزلق المياه عكرة متسخة مزيلة آثار يديِّ، وأنا أنتظر في المطر والريح تحمل أوراق الخريف في كل الاتجاهات، كما تحملني إليكِ الذكريات لأعبر تلك البوابة أو البرزخ الذي يفصل بين ماضٍ حي وحاضر ميت.

فما زلت أعيش وراءها أيامي البعيدة الممتدة في الممر المظلم  الذي لا يصله ضوء النهار، فعن يساره حائط، وعن يمينه تمتد غرف متتالية كالأيام، في نهايتها كانت غرفتي أو الجُحْر الذي أختبأ فيه، تستبد بي أفكار حادة لم أستطع يوما التحرر منها، فدائما أفكر أني ولدت مهزوما لا أستطيع الإفلات من الخسارة والخذلان والغرق في تباريح الشوق وتيه الأحزان. ومعكِ حاولت الهرب، فإذ بكِ تلقيني في مكان ضيق مُقيدا بأصفاد الشوق ونوازع المرض.  

فبينما أنا محموم أئن وأهذي رأيتك في ضوء غرفتي الخافت دائما وكأن مساء أبديا قد هبط عليها،  فظننتكِ وهما من تهيؤات الحمى، لولا جارتي العجوز التي بدت بشرتها القمحية في الضوء الخافت تميل  للسواد، وظل قامتها القصيرة البدينة ينعكس على كل شيء في الغرفة.. على المنضدة والكرسي المتهالكين وخزانة الملابس القديمة، بينما ظلكِ كان إلى جواري على السرير طوال أيام مرضي.

وعندما قاربت على الشفاء رأيت الباب يُفتح بحذر ثم أطل وجهك كما القمر الذي أضاء مرةً مساء غرقتي الأبدي وزال، ثم اقتربتِ بخطوات غير مسموعة، ولما رأيتني بخير تفتح وجهك كوردة ذابلة ناعسة أيقظها ندى الصباح، فعيناك تلمعان فرحا، وخداك صارا بلون الأقحوان، وشفتاك تبتسمان في خجل ثم اختفيت.

وعندما سألتُ جارتي عنكِ، قالت إنها كانت تعتني بي أثناء فترة مرضي بمفردها، فوقفت ذاهلا دهشا غير واعٍ لما أسمع، وعاودني السَقُمُ مرة أخرى بلا مغادرة، بينما أنتِ غادرتِ بلا معاودة.

فظنوا أن سبب سَقُم صدري هو جو الغرفة، فنصحوني بالانتقال لمكان آخر، ومن يومها وأنا أقضي ساعات طوال هنا متفحصا كل الوجوه التي تمر بعيني لَعَلِّي أعرفكِ حقيقة لا وهمًا يقبع في أيامي البعيدة.