الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. محمود الهواري يكتب: بين الفكر والعبث

صدى البلد

تُطلُّ علينا بين الحين والآخر عبر الشَّاشات والبرامج وجوهٌ تُرى عليها ملامح الواثقين، وتنطق ألسنتها بكلام المتفاصحين! 
وإنِّي لأتساءل: 
من أين حازوا هذه الثِّقة؟ ومن أين يأتون بهذا الكلام؟!
وهل الوجود في برنامج، أو على صفحات التَّواصل الاجتماعيِّ كافٍ ليعطي الإنسان هذه الثِّقة المكذوبة الَّتي تجعل لسانه يهرف بما لا يعرفه، وينطق بما لم يحط بعلمه، ويتكلَّم بما لا يدري عواقبه؟!
وهل مجرَّد وجود مكبِّر للصَّوت، وعدسة للكاميرا مُغْرٍ إلى هذا الحدِّ الَّذي يبيح تناول النَّاس وما استقرَّ في وجدانهم، والمؤسَّسات ومناهجها، والهويَّات ومكوِّناتها؟!


وأنا لا أبالغ في هذه التَّساؤلات؛ فبعض ما يطرحه أصحاب الملامح الواثقة والألسنة النَّاطقة ينال فعلًا من الهويَّة ومكوِّناتها، والمؤسَّسات ومناهجها، والنَّاس وما استقرَّ في وجدانهم، وإن كان في جملته لا يعدو أن يكون «بضاعة المفاليس».
وهؤلاء -بهذا الطَّرح الَّذي يخلو من معالجة حقيقيَّة لأوجاع الوطن المكلوم بهم- أشبه بمن يصرخون الصُّراخ الأخير قبل أن يطويهم النِّسيان في أوديته كما طوى كثيرين غيرهم، فهم يهتفون بالنَّاس في محاولة يائسة للفت الأنظار إليهم قائلين: «نحن هنا، وما زلنا أحياء». 
وأظنُّ ظنًّا لا إثم فيه أنَّ بعض ما يقدِّمه هؤلاء هو من سباق «الترند» الَّذي تكلَّمت عنه في مقالٍ سابق.
ويبدو كذلك أنَّ لقبي «المفكِّر» و«الفكر» لقبان مغريان جدًّا يحملان بعض النَّاس على أن يخوضوا فيما لم يسبروا دروبه ولا مسالكه، وأن يتسوَّروا حمًى ليست لهم.


وبالرّغم من ملامح الثِّقة الَّتي تظهر على وجوههم، وهذه الألقاب الرَّاقية الَّتي يُحبُّ بعضهم أن تسبق أسماءهم؛ إلَّا أنَّ بضاعتهم الَّتي يطرحونها مزجاة تحتاج إلى من يوفي لهم الكيل ويتصدَّق عليهم بالبيان.
نعم بضاعتهم مزجاة.
حين يهجمون على الأزهر الشَّريف فبضاعتهم مزجاة!
وحين يخترعون أشكالًا جديدةً للعلاقة الزَّوجيَّة المقدَّسة فبضاعتهم مزجاة!
وحين يجعلون الزِّنى واللُّواط والدِّياثة حريَّة شخصيَّة فبضاعتهم مزجاة!
وحين يبيحون لكلِّ إنسان أن يفتي نفسَه بما يتخيَّر لنفسِه فبضاعتهم مزجاة!
ثم يدَّعون بعد هذا الإفك أنَّهم مفكِّرون!


إنَّ الفكر -بحسب المعاجم المتخصِّصة- أسمى صور العمل الذِّهني بما فيه من تحليل وتركيب وتنسيق. فأيُّ تحليل وتركيب وتنسيق هذا الَّذي يتعرَّض لمؤسَّسةٍ ضاربةٍ بجذورها في أعماق التَّاريخ والجغرافيا؟
وأيُّ تحليل وتركيب وتنسيق هذا الَّذي يتجرَّأ على حمى الشَّريعة ليدخل إليها ما ليس منها؟
وأيُّ تحليل وتركيب وتنسيق هذا الَّذي يُنكر ما استقرَّ في المجتمع من قيمٍ دينيَّة وأخلاقيَّة؟! 
ثم يحتجُّون ويصادرون على الشَّرع والتَّاريخ بأنَّ «الفكر يعالج بالفكر» وهذا صحيح، ولكن قبل أن نُعالجَ بالفكر أيَّ طرحٍ فعلى هذا الطَّرح أن يكون فكرًا أوَّلًا.
فمقولة «معالجة الفكر بالفكر» مظلومة فهمًا وتطبيقًا، أمَّا في فهمها فنعم نعالج الفكر بالفكر والرَّأي بالرَّأي، ولسنا ننكر هذا، واستنطقوا محاريب الأزهر العامر فستشهد لكم باتِّساعها لكلِّ فكرٍ ورأيٍ، حتَّى تكوَّنت هذه المدارس الفقهيَّة والعقديَّة والسُّلوكيَّة المعتبرة الَّتي تدور أصولها وفروعها في قاعات الأزهر بلا نكير.
وأمَّا تطبيق هذه المقولة فأنَّي يكون ذاك من هذا؟
وأعني بـ«ذاك» افتئاتهم علي الشَّرع الشَّريف، وخروجهم على «ثوابت وطنٍ» بإدخال كلِّ لوثة إلى حماه. وأعني بـ«هذا» تلك الصُّورة المشرقة الَّتي تشكَّلت من تنوع الفهوم، وتلوَّنت بألوان الاحترام والقبول فكان هذا الثَّراء الفكريُّ الَّذي يضمن تحقيق سعة الشَّريعة ويحفظ للأمَّة كيانها. 
إنَّ الفرق كبير بين الفِكرَة العارضة والفِكْرِ المستقرِّ.


ثمَّ دعونا نسألهم: ألا يقودكم فكرُكم هذا إلى ما في المجتمع من مشكلات متنوِّعة فتعاونوا المؤسَّسات في حلِّها؟ أم أنَّ تنويركم المظلم يرى الخلاعة تحضُّرًا، والمجون تقدُّمًا، والعري حريَّة؟! مالكم كيف تحكمون؟
إنَّ هويَّة هذا الوطن الَّتي تكوَّنت عبر قرونٍ متطاولةٍ لا تحتاج إلى أفكار هؤلاء، بل تحتاج إلى من يحفظ هذه الهويَّة بمكوِّناتها وملامحها؛ لتظلَّ شاهدة على عراقة بلادنا وحضارتها. 
ووالله إنَّ هؤلاء وأمثالهم -بما يقولون- أخطر على البلاد والعباد من كثير من المخرِّبين والمخرِّفين.
ولكنَّ ما يريح فؤادي أنَّ الظَّلام لن يكون نورًا، وأنَّ الجهالة لن تكون فكرًا، وأنَّ النَّاس أعرفُ بالصَّحيح من السَّقيم.
وأذكِّر هؤلاء بقول الشَّاعر:
يَا بَارِيَ القَوْسِ بَرْيًا لَيْسَ يحسنُه     لا تظلم القَوْسَ أَعْطِ القَوْسَ بَارِيهَا