الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في بيتنا كورونا


* دوما كنت أدعو الله أن يبعد عني وأسرتي وأحبابي ومن أتذكره وقت دعائي شر الإصابة بالفيروس اللعين، الذي أرعب العالم وجعل من علمائه تلامذة في محراب العلم الواسع، يبحثون عن لقاح يتصدى لفيروس كورونا ويمنعه من الانتشار . كنت أتمني دوما أن لا أرى أي مريض يتألم منه، خاصة بعدما علمت عنه الكثير وعن معاناة مرضى الكورونا من ضيق التنفس وإرتفاع درجة الحرارة ، مثل كثير غيري كنت أبحث عن الأطعمة والأدوية التي تساعد على تقوية المناعة لمواجهة عدو قادر على إبادة البشر في لحظات . 


في بداية انتشار الفيروس كانت المواجهة النفسية تعتمد على التواكل على الله كعادتنا كمصريين وعدم الأخذ بالإجراءات الإحترازية التي فعلتها الدولة لحماية المواطنين ، وكنت كغيري نهمل الاحتراز بدعوى أننا لم ولن نسافر للخارج أو نستقبل أحدا من العائدين ، كانت الشهور الأولى لانتشار الفيروس تحمل تهاونا من بعضنا حتى اختطف الموت بالفيروس بعض الأصدقاء وأصبحنا ننتظر اللحظة الكريهة ، كنت أخرج كل صباح لعملي ويدور بخلدي أنني لن أعود مرة أخرى. كانت الكحة تحمل الوهم وارتفاع درجة الحرارة يعني انهيارا للذات التي تبحث عن نجدة البقاء ، كان الكل يتلاشى الكل ، توقفت كثير من المجاملات بعد إرتفاع عدد الضحايا ، وأصبح كل منا ينتظر داخله في خوف اللحظة المرعبة ، تعلم البعض منا الدرس واستفاد من الخريطة التحذيرية للدولة، وأصبحت نسبة كبيرة من المواطنين ترتدي الكمامات الواقية لعلها تفلح في المواجهة أو على الأقل تريح النفس . حينها حضرت صديقة أمريكية في زيارة لمصر  ودعتني لزيارتها في أحد فنادق القاهرة المطلة على النيل العظيم ، الذي يبشر بوجود الحياة وتجددها رغما عن كورونا القابع على جدران المقابر يدعو من يشاء لتسليم متعلقات الدنيا واستلام ملف حساب الآخرة ، التقتني ديانا بترحاب شديد بدون مصافحة أو قبلات كتعليمات الفيروس اللعين الذي حرمنا أحيانا من عادات كنا نحرص عليها ، ودار حوار طويل بيننا وفي نهاية اللقاء أعطتني الصديقة حقيبة شيك صغيرة ورجتني أن أقبلها ، على استحياء بعد تكرار طلبها تناولتها، لعب شيطان الغرائز برأسي وسرت في صدري نشوة وتحسست رباط عنقي وأخذت نفسا عميقأ انفرد فيه صدري واستطالت قامتي وسرت في نفسي فرحة بالهدية التي كنت أتلهف على معرفة حقيقتها. 


همست داخلي لابد أنها أحدث أنواع البارفانات الأمريكية الفارهة أو أحدث أنواع الأيفون الذي يربك عقلي حين يقص لي نجلي حسام عن الجديد في عالمه ، حين دلفت للخارج تحسست الهدية ورمقتها وتوقفت جانبا وضحكت على خيبة أملي في ظني وأحلام شهوتي التي تبخرت، أربعة أصناف من الأدوية الأمريكية المقوية للمناعة في مواجهه فيروس كورونا كانت بتسامة خيبة الأمل التي يقال أنها تركب جملا ، لكن حين لاحت أمام عيني مشاهد ضحايا كورونا وبعض أصدقائي الذين فقدتهم حينها فقط . لمعت في عيني فرحة النجاة أو على الأقل فرحة الوقاية وحمدت الله على أنني نفسيا أصبحت أمتلك كثيرا من حائط الصد المناعي . داومت على تناولها في مواعيدها عقب استشارة صديقي الطبيب، وكنت عندما أعلم بمرض أي إنسان أقوم بإرسال الجرعة المقررة له من تلك الحبوب المقوية للمناعة والمساعدة في حائط الصد ، والحمد لله ساعدت على شفاء البعض وكانت تلك مصدر سعادتي .


ذات صباح صحونا على آهات أمي ، كل شيء من حولي وداخلي يتمزق حين تطلق آهاتها الضعيفة . وفي لحظة كنا حولها أبناء وزوجات وأزواج وأحفاد وبدون الاحتراز والتباعد والحرص على تفعيل كافة الإجراءات كل هذا تلاشيناه، لم يكن في خاطرنا سوى الاقتراب من أمي لكي تشعر أننا جميعا حولها و كانت تتألم دون أن تصدر صوتا من أجلنا ..  تحسست جبهتها وحمدت الله على عدم وجود حرارة . أحضرت شقيقتي زجاجة عطر وقمت برش يديها . حينها  فرح قلبي وابتسمنا حين قالت أمي : الله  دي ريحة عطر جميل ، كل منا ابتسم داخله واطمأنت سريرته ، كان الشك يدور في عقولنا ، فكل من يمرض في تلك الأيام يدور بالذهن هذا الفيروس اللعين. 


بالاختبارات العادية تأكدنا أن أمي الحمد لله ليست مصابة بهذا الفيروس اللعين، أشعة رنين وأشعة مقطعية أجريناها كما طلب  الطبيب بالإضافة لتحاليل أخرى ذهبنا لطبيب الباطنة الشاب الشهير وتوسطنا لنتجاوز الدور في عيادته المليئة بالمرضى، فهذا يكح وهذه تعطس ويئن الآخر من صعوبة التنفس لم نكن نملك حلا آخر للمرور بينهم . الدعوات والكمامات والقفازات كانت وسيلتنا للمرور بين آهات الحياة ورائحة الموت، ولكن في النهاية لن تمنعك أي تهديدات من إهمال أمك والتغاضي عن مرافقتها على كرسيه المتواضع جلس طبيب الباطنة الشاب الشهير يرتدي كمامة طبية وقام بالكشف على أمي ثم عاد لمكتبه، جلست أمامه أنتظر كتابته للروشتة الكبيرة وعرضت عليه التحاليل والأشعات فهمس قائلا  المناعة قليلة جدا، والدتك مريضة كورونا . 


توقفت الحياة أمامي للحظات، وشعرت بأن شقيقتي ستنهار أمامي. يا الله لطفك يارب كنا نخشى هذا الفيروس اللعين ونتحاشاه ونتلاشاه فإذا به يقترب من القلب والروح في لحظات استعدت توازني وقلت له يا دكتور أمي لا تخرج مطلقا وأجرينا عليها بعض الاختبارات والحمد لله تأكدنا أنها سليمة وبعافية، هي مريضة سكر وضغط فقط ولا تخرج من شقتها ولا أحد يزورها سوانا، وببرود أعصاب قال لي يا استاذ أنا بقولك على اللي متأكد منه، العيادة مليانة مرضى عايز أخلص من فضلك . 


لم أصدقه.. إحساسي أقوى من دراسته وعلمه، ودموع شقيقتي كانت استغاثة لله بهدوء حملناها، ابن شقيقتي ونجلي وأنا وانصرفنا.  اقتربنا منها لم نكن نخشي شيئا. أمي محصنة برعاية الله وعدم الاختلاط . بجوار نجلي جلست هي وقاد نجلي السيارة وأنا في المقعد خلفها لم أكن أخشى من شيء  ولا على نجلي الجالس جوارها . هبطت من السيارة حملناها . نجل شقيقتي المهندس الشاب ونجلي وأنا  كنا نشعر ونحن نحملها أننا  نتحدى بحضنها كل فيروسات الدنيا.  كانت نظراتنا قوية وثقتنا فى الله أقوى .كانت أنفاسها التي ملأت أجسامنا بمثابة محلول مضاد وحضنها دواء لكل شك .. على فراشها جلست وجلسنا كلنا حولها كانت نظراتها لنا تطمئنا بأنها بخير، كانت تقول بلا صوت أحباب عمري لن تضاروا من أنفاسي ولا حضني فأنا فداء لكم . كنت أنظر إليها لأرى في عينيها الحياة. 


أبدا لن يرضى الله أن تئن أمي، تلك السيدة التي كافحت في شوارع مدينة السويس مع أبناء المقاومة الشعبية في عام ٦٧  تقاوم  العدو الإسرائيلي وتساهم في طرده من أرضنا الطاهرة في السويس، حيث كنا نقيم حتي اطلقوا عليها من شجاعتها أم المقاومة الشعبية ، الله سيشفع لها ما قدمته لوطنها ولنا .  وبدون كمامات كنا حولها نتلمسها ولم نكن نصدق كلام الطبيب . أمي تشم جيدا كنت أضع العطر على يدي وأقترب من انفها بصدري وروحي ، كيف من أعطتني الحياة أن تكون سببا في وفاتي، قلبي لا يصدق مطلقا ، أمي حرارتها جيدة ولا توجد أعراض نخشاها . كل من أخوتي كان يرفض ادعاء الطبيب ويقترب منها لكي لا تشعر بشيء بعد أن سألتنا امي: هو أنا عندي كورونا يا حبايبي .. ابتسمنا جميعا لإدراكها ولكي نريح قلبها وهو الأهم كنا جوارها نتحدى . كل منا قال في داخله إن كانت مصابة بالفيروس فنحن السبب  هي أخذته من أحدنا لأنها لا تخرج مطلقا ..لكن .  نحن والحمد لله بخير ولا توجد لدينا حتى حالة اشتباه، فإن حدث فالأفضل أن نموت جميعا.


أصبحت في لحظة أنتظر الموت فأنا من حملها واختلطت أنفاسي بأنفاسها رافضأ كلام الطبيب ، إحساسي أنه مخطئ كان أقوي من علمه ودراسته ، حاسة الشم عند أمي قوية ولا توجد حرارة ولا ضيق في الصدر ، روشتة الطبيب الشاب كبيرة جدا، دار الشك داخلي حملت التحاليل والأشعات وعرضتها على طبيب أكاديمي آخر  وكانت المفاجاة أمي بريئة من إدعاء الطبيب ولو أخذت هذا الدواء لماتت . وكنت والحمد لله لم احضر لها ما كتبه من دواء .. سألته ..  كيف؟  قال لي الطبيب الأكاديمي التحاليل جيدة لكن المناعة ضعيفة ولكن هناك مشكلة في الكبد فقط وأي طبيب متسرع في الكشف ممكن يشخص الحالة كورونا . 


أغمضت عيني لبرهة .. همت في سماء الخالق أنثر حلوى نجاة أمي من ادعاء الطبيب الأول المتسرع في الكشف لإمتلاء عيادته بالمرضى أرسلت التحاليل والأشعات لطبيبين من أصدقائي ليتم التأكيد على براءة التحاليل وأمي من إدعاء الطبيب الذي أوهمنا بإصابتها .. ياخسارة . هل تلوث الثوب الأبيض بجهل أحدهم ؟ هل تلوث بخداعه لنا لنشتري الدواء من صيدلية معينة ؟ هل تلوث الثوب الأبيض بتسرع الطبيب وعدم تركيزه في قراءة التحاليل والأشعات لضيق وقت سيادته. لكي يقوم بالكشف على عشرات المرضي الذين في الانتظار وكل منهم اشتباه كما يؤكد لهم  وكما علمت فيما بعد ..  طبيب آخر وآخر وآخر أكدوا أن أمي بريئة من إدعاء الطبيب الشاب الشهير المعروف عنه أنه لا يجد وقتا كافيا للكشف الجدي على المريض . 


روشته جاهزة للجميع وصيدلية مخصصة للجميع . وللإطمئنان حملنا أمي لمستشفى خاص و بغرفة العناية المركزة هناك كانت تعالج من الكبد وارتفاع نسبة السكر والحمد لله بعد اسبوع عادت أمي تنير بيتها التي اشتاقت لها جدرانه بعد أن تحسنت حالتها  نسبيا ليتم استكمال علاجها في البيت بزيارات أطباء وممرضين للمتابعة مع فيزيتا قاسية جدا  تخلو من ضمير أي منهم ..  عادت أمي وعادت الحياة لما كنا نعتقد انها مقبرتنا .. عادت تحيي بيتها ..وعادت روحي التي كانت تهيم في المقابر تبحث عن مكان انتظارا للحظة الرحيل التي أوهمنا الطبيب بقربها وبرغم كل هذا وبرغم التغالي في الزيارات المنزلية للمتابعة وتحول علاج المريض لبيزنس .. سيظل الثوب الأبيض ناصعا .
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط