الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مكانة مصر

مكانة مصر فى الرسالات السماوية.. علي جمعة يوضح

مكانة مصر
مكانة مصر

قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق إن النموذج المصري نموذج يستحق الدراسة في ماضيه وحاضره ومستقبله، وذلك لأنه نموذج رائد، ولأنه أيضا نموذج فريد، ولأن النماذج التي جاءت من بعده تحتاج إلى إعادة تقويم، ولأن كثيرا من اللبس والخلط قد حدث في تحليله وفهمه مرة عن سوء قصد، ومرات عن حسن نية، ولكن إما عن جهل بحقيقته، وإما عن تحيز في مدرسة تحليله يمينًا ويسارًا، وإما لعدم الوعي بتطوره أو تغيره.


وأضاف علي جمعة أن شبابنا يحتاج كثيرا إلى دراسة هذا النموذج ليس فقط لتقويمه، وإنما أيضا لمستقبل الثقافة في مصر، ولمستقبل الثقافة في العالم العربي والإسلامي، ولمزيد من الصلة مع العالم كله؛ ولأن هذا الموضوع موضوع كبير، فإننا سنعرض لمفرداته إجمالاً ثم نبدأ في تفصيلها، ونعالج هذه المفردات كلا على حدة.


وأوضح مفتي الجمهورية السابق أننا نحتاج أن نُذَكر بمكانة مصر عبر التاريخ من خلال الرسالات السماوية والتاريخ القديم.


مصر في الرسالات السماوية ومكانتها عبر العصور منذ فجر التاريخ:
عُرفت مصر منذ فجر التاريخ الإنساني بأنها مهد للحضارات الإنسانية، وذلك قبل الميلاد بآلاف السنين، ولقد ساعد نهر النيل على قيام الحضارة في مصر منذ زمن بعيد، وقد ورد في كتب السنة في صحيح البخاري وغيره أن سيدنا إبراهيم عليه السلام لما ضاقت به سبل العيش هاجر إلى مصر ليعيش بها، وكان ملك مصر وقتها  أحد الفراعنة وكانت مصر أرض خير ورخاء مما يدل على وجود الحضارة، والرخاء الاقتصادي فيها وقتئذ، غير أن هذا الفرعون كان لا يريد خيرا بالسيدة سارة ولقد أظهر الله له مكانتها فخشي منها وأهداها السيدة هاجر لتخدمها.


كما أشار القرآن إلى مصر في أكثر من موضع من أهم هذه المواضع قصة سيدنا يوسف عليه السلام،  حيث ذكر القرآن قصة تآمر أخوته عليه وأخذه وإلقائه في البئر، وبعد ذلك جاء ذكر مصر كعنصر مهم من عناصر قصة يوسف عليه السلام، قال تعالى : ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف :19 : 21].


ثم ذكر القرآن الكريم قصة تعرض سيدنا يوسف عليه السلام لفتنة امرأة العزيز، ومن بعدها لفتنة السجن، ثم أظهر الله مكانته للجميع وولاه حاكم مصر مكانة عظيمة، مكانة تعادل وزير التموين أو التجارة في أيامنا هذه، واحتاج أخوة يوسف إلى الزروع والخيرات التي كانت في مصر وقد كانوا يعيشون مع أبيهم يعقوب عليه السلام في البدو، وكان يوسف عليه السلام هو المسئول عن إعطاء الناس الطعام، ووزنه لهم، وذكر القرآن ذلك فقال تعالى : ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ المُنزِلِينَ * فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ﴾ [يوسف :58 : 60]
مما يدل على شدة حاجتهم للكيل وأن يوسف بصفته مسئول في مصر كان يوزع على فقراء المناطق المجاورة إحسانا وتصدقا، ولقد ضغط على أخوته ليحضروا أخاه الشقيق وهددهم بقطع هذه المعونة، ويؤكد هذا المعنى توسل إخوة يوسف وذلك بعد شدة حزن أبيهم كما حكاه القرآن الكريم فقال تعالى : ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا العَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى المُتَصَدِّقِينَ﴾ [يوسف :88].


وفي نهاية قصة يوسف يحكي القرآن أن يوسف عليه السلام أمنهم في مصر وأدخلهم فيها، فقال تعالى : ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [يوسف :99].
وبعد ذلك بعدة عصور ولد موسى عليه السلام، وكان من الجيل الرابع لأبناء يعقوب عليه السلام فكان يوسف عليه السلام بمثابة الجد الرابع لموسى عليه السلام، يقول تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون الذي آمن لموسى ودعا قومه للإيمان به : ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾ [غافر :34] 
وأبناء يعقوب هم أساس بني إسرائيل ، فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام ، وظل بنو إسرائيل في مصر حتى أصبحوا شعبا في زمن فرعون موسى. وقلما تجد سورة في القرآن لا تذكر فيها قصة موسى عليه السلام مع فرعون، وكان فرعون يفتخر بأنه يملك مصر، وحكى القرآن عنه ذلك فقال : ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف :51] في إشارة إلى إعجابه بملكه، وظنه أنه إله يعبد لأنه يملك مصر وأنهارها تجري من تحته.


ولقد تنبأ بعض الكهنة لفرعون أنه سيقتل على يد غلام سيولد في بني إسرائيل، فكان فرعون يقتل الذكور من بني إسرائيل مخافة هذا الغلام، ويترك الإناث وذكر القرآن عنه ذلك فقال تعالى : ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِى نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ﴾ [القصص :4]..


ويشير القرآن الكريم إلى أرض مصر دون التصريح باسمها وذلك عند حديثه عن ملاذ السيدة العذراء وابنها السيد المسيح عليه السلام بعد حادثة موسى وفرعون بعصور طويلة، قال تعالى : ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ [المؤمنون :50]. 


واختلف المفسرون في المقصود بربوة ومن هذه التفسيرات أنها مصر وهو الموافق لما جاء في إنجيل "متى" وإنجيل "برنابا" في قصة أورداها. 


وتتلخص تلك القصة : بأن هيرودس أمر بقتل كل طفل في بيت لحم، فأُمر يوسف النجار في منامه بأن يذهب بالطفل وأمه إلى مصر، فذهب بهما إليها، وأقاموا بها إلى أن هلك هيرودس، ولما هلك هذا الحاكم أُمر يوسف النجار في منامه أن يعود بالطفل وأمه إلى بلادهما، لأن اللذين كانوا يطلبون قتله قد هلكوا، فرجع بهما.
وكان عيسى حينئذٍ قد بلغ من العمر سبع سنين، وجاء بهما إلى اليهود حيث سمع أن أرخيلاوس بن هيرودس هو الذي صار حاكمًا في اليهودية، فذهب إلى الجليل لأنه خاف أن يبقى في اليهود، وكانت إقامتهم في الناصرة، ونما في النعمة والحكمة أمام الله والناس.


وعندما جاء الإسلام وأمر الله نبيه ﷺ بنشر الدين الإسلامي، أولى رسول الله ﷺ عناية خاصة بمصر، ورغم أنه أرسل إلى هرقل عظيم الروم رسالة يعرفه بالإسلام ويبلغه الدعوة التي أمر الرسول ﷺ بنشره فقد بعث للناس كافة ، وكانت مصر في هذا الوقت تحت الحكم الروماني ، إلا أنه ﷺ أرسل رسالة خاصة إلى المقوقس جريج بن مينا عظيم القبط وحاكم الإسكندرية ، حملها إليه حاطب بن أبي بلتَعة على رأس وفد من ستة أشخاص، وكان نصها: 

 

«من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط
سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فعليك إثم القبط.  "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ». 


ولقد اعتنى المقوقس برسالة النبي ﷺ ، ورد عليه برسالة توحي بأنه يصدق بنبوته ﷺ وكان نص رد المقوقس : «لمحمد بن عبد الله من المقوقس
سلام، أما بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام. وقد أكرمت رسلك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام». 


وكانت السيدة مارية القبطية هي إحدى الجارتين التي ولدت للنبي ﷺ إبراهيم، وكان النبي ﷺ يحبها كثيرا وكانت تشتد غيرة نسائه منها رضي الله عنهن أجمعين.
لذا فكان لأقباط مصر كبير الشأن والمنزلة عند كل المسلمين عامة، ومسلمي مصر خاصة، وروت أم سلمة رضي الله تعالى عنه : «أن رسول الله - ﷺ - أوصى عند وفاته فقال: "الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانًا في سبيل الله» [رواه الطبراني في المعجم الكبير ،وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد أن رجاله رجال الصحيح مجمع الزوائد].


وقال ﷺ في حديث آخر «إنكم ستفتحون أرضًا يُذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا». وفي رواية : فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحمًا»، أو قال: «ذمة وصهرًا» وفي رواية: «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط» [الحديث بروايتيه في صحيح مسلم رقم (2543)، باب وصية النبي - ﷺ - بأهل مصر، وفي مسند أحمد 5/174]. 


فلرسول الله ﷺ قبل الإسلام رحم في أهل مصر ، باعتبار أم العرب السيدة هاجر رضي الله تعالى عنها فكانت من أهل مصر. والصهر باعتبار أم إبراهيم السيدة مارية رضي الله تعالى عنها، فهي المرأة الوحيدة التي أنجبت لسيدنا رسول الله ﷺ الولد، بعد أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها.


ما سبق يوضح مكانة مصر الدينية حيث عاش فيها يوسف عليه السلام، وولد فيها وعاش سيدنا موسى عليه السلام، وزارها من قبل أبوهم إبراهيم عليه السلام، وزارها السيد المسيح عليه السلام مع أمه، وصاهر منها رسول الله ﷺ فأحد أبنائه أمه مصرية، كما أن إسماعيل عليه السلام كانت أمه مصرية، وجاءها أصحاب رسول الله ﷺ فاتحين لها مكملين لمسيرة حضارتها مطبقين لوصية رسول الله بأهلها ونشر الإسلام فيها.


كما يوضح مكانتها السياسية والاقتصادية التي تجلت في مراسلة النبي ﷺ للمقوقس فكان لمصر مكانتها الاقتصادية ونفعها المتعدي لجيرانها منذ فجر التاريخ كما مر في قصة سيدنا يوسف عليه السلام.


وبعد ذلك كانت مصر ولاية إسلامية تتبع خلفاء رسول الله ﷺ في المدينة المنورة ثم بعد ذلك في الكوفة في نهاية عصر الخلفاء ، وظلت مصر الولاية القوية الفتية بجيشها وبخيراتها في زمن الحكم الأموي حيث كانت عاصمة الخلافة في دمشق، وكذلك في الزمن العباسي عندما انتقلت الخلافة إلى بغداد.


وفي العصر العباسي تكونت خلافة إسلامية أخرى هي الخلافة الفاطمية، وكانت مصر عاصمة الخلافة الفاطمية حتى العصر الأيوبي الذي وحد الخلافة الإسلامية تحت الخلافة العباسية، وحققت مصر انتصارات في الحروب الصليبية.


وفي زمن المماليك كانت الخلافة العباسية رمزية إلى حد كبير فظهرت مكانة مصر العسكرية في تصديها للتتار على يد قطز والظاهر بيبرس.
وبعد ذلك تحولت الخلافة إلى الدولة العثمانية على يد سليم الأول وأصبحت مصر ولاية عثمانية تتبع الخليفة العثماني، وكان القائد العسكري محمد علي الألباني الأصل الذي وافق المصريون على توليته مصر كأحد ولاة الدولة العثمانية خاضعا للخليفة العثماني. 


ومحمد علي هو مؤسس الدولة المصرية الحديثة في شتى المجالات، ففي هذا الزمن كان الواقع قد تغير، فتغير وجه الأرض بسبب ثورة الاتصالات والمواصلات بمراحلها المختلفة.