خلال سعيه لتكوين جيش قوي يمكّنه من القضاء على الصليبيين وإيقاف زحفهم وطمعهم في بيت المقدس، لم ينسَ التعاليم الإسلامية في احترام مشاعر الإنسان؛ والتسامح في التعامل، وهو ما عكسته الكثير من المواقف التي اشتهر بها بين الصليبيين لدرجة تلقيبهم له بـ "الملك الرحيم".
المحارب الشهم
عرف صلاح الدين الأيوبي، سواء في البلاد العربية أو الأوروبية كمحارب شهم كريم الأخلاق كما عُرف كمسلم مؤمن، متواضع، وكانت له العديد من المآثر الإنسانية التي تجلت فيها رقة قلبه، ولم يكن قائداً مقاتلاً عنيداً فقط، بل كان مثقفًا يحب العلم ويشجع العلماء، فقد عمّر المساجد وأصلح الري وبنى القلاع والأسوار في القاهرة ودمشق.

ولعل أبلغ مثال على العلاقات الإنسانية الطيبة، الذي ضربه صلاح الدين الأيوبي، فبعد نجاحه في الانتصار على الصليبيين ودخول مدينة بيت المقدس تسامح مع سكان المدينة، بدليل أن صلاح الدين لم يفعل كما فعل جنود الحملة الصليبية الأولى الذين اقتحموا المدينة وقتلوا جميع سكانها المسلمين، فقد أمر بالحفاظ على أرواح وممتلكات السكان المدنيين، بل ودفع من جيبه أموالًا لافتداء النساء والأطفال والرهبان، كما أنه عندما سمع بمرض الملك ريتشارد أرسل إليه فاكهة من الخوخ والكمثرى والمياه المثلجة.
وقف القصف بسبب عروسين
يتجلى تسامح صلاح الدين الأيوبي، في موقفه من أخطر حصون الصليبيين في بلاد الشام وهو قلعة الكرك، التي كان يتولى الإشراف عليها أخطر أمرائهم، وهو رينالد دي شاتيون الذي عرف عند العرب باسم أرناط، واشتهر بأنه لا يقيم للعهود والمواثيق وزنًا أو احترامًا، كما دأب على قطع الطريق من هذه القلعة على قوافل المسلمين التجارية بين العراق وبلاد الشام ومصر، فضلاً عن مهاجمة قوافل الحجاج المسلمين.

لذلك كان من أهم أهداف صلاح الدين الأيوبي، الاستيلاء على هذه القلعة وتأديب سيدها الجاحد الغادر، فطالما بقيت هذه القلعة في يد رينالد دي شاتيون «أرناط» وأتم صلاح الدين استعداده للهجوم على هذا الحصن وعسكر أمام أسواره في نوفمبر سنة 1183، وتصادف في هذا الشهر أن الصليبيين كانوا يقيمون حفل زواج مهيبًا في القلعة الشهيرة، توافد إليه الضيوف من الصليبيين دون أن يعلموا بنية صلاح الدين في حصار القلعة المنيعة، وما كاد الصليبيون يبدأون مراسم الاحتفال، حتى أفزعتهم الأنباء عن الوصول المفاجئ لقوات صلاح الدين وتطويقه للقلعة، وأن المجانيق بدأت ترمي الأبراج الأمامية للقلعة، وسيطر الفزع على الصليبيين خاصة حين هرب سيد القلعة نفسه أرناط.

وهنا أقدمت والدة العريس على خطوة تعرف وقعها على صلاح الدين الأيوبي، بما اشتهر عنه من روح إنسانية نبيلة، وإيثاره التسامح في جميع أعماله حتى في العمليات الحربية نفسها، إذ أعدت صحونًا من طعام العرس، وبعثت بها إلى صلاح الدين.

وأرسل صلاح الدين مقابل ذلك يسأل بأي الأبراج ينزل العروسان؟ ثم أصدر الأوامر بألا يتعرض هذا البرج للقصف، وبرغم سيطرته الكاملة على الموقف، إلا أن إنسانية صلاح الدين وحرصه على تطبيق كل قيم ومبادئ التسامح، فرضت عليه أن يستجيب لطلب الصليبيين بعقد هدنة تتيح لضيوف العرس الحرية في العودة إلى ديارهم.
أكرم أسرى الصليبيين
وتتجلى أيضًا إنسانية صلاح الدين الأيوبي، في التعامل مع أسرى الصليبيين والاستجابة لمطالبهم المشروعة وعدم إهدار حق واحد من حقوقهم؛ خاصة حين سار بعد انتصاره في حطين إلى بيت المقدس لاستردادها، إذ أكرم كل من استسلم له من كبار الصليبيين الذين كانوا يمتلكون مدن الساحل الفلسطيني ومن بين هؤلاء كونتيسة طرابلس، التي عاملها صلاح الدين بما يليق بها من الحفاوة والتشريف، وأذن لها ولحاشيتها بالتوجه إلى طرابلس.
نجدة أمّ صليبية
وتتعدد مواقف صلاح الدين في التسامح؛ إذ يذكر التاريخ أن سيدة من نساء الصليبيين فقدت رضيعها في الفوضى والاضطراب الذي حل بالصليبيين بعد هزيمتهم في معركة حطين، فتعالى صراخها حتى وصل خبرها إلى ملوكهم، فقالوا لها: إن صلاح الدين رجل رحيم القلب، وقد أذن لك في الخروج إليه، فاخرجي واطلبيه منه، فإنه يرده عليك.

فخرجت تستغيث إلى العسكر السلطاني، فأخذوها إلى السلطان، فأتته وبكت بكاء شديدًا ومرّغت وجهها في التراب، فسأل عن قضيتها فأخبروه بما حدث لها فرقّ قلبه ودمعت عيناه، وأمر بإحضار الرضيع فورًا ولما بحثوا عنه وجدوه قد بيع في السوق، فأمر بإعادة شرائه وظل واقفًا حتى أحضر الطفل وسلمه إليها، ثم أمر بحملها على فرس وأُعيدت إلى قومها مع طفلها.