الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

صديقي الياباني

د. هادي التونسي
د. هادي التونسي

عرفته أثناء جولة سياحية لعدة أيام في جنوب تركيا، يابانيا جاء بمفرده، وفي يده آلة التصوير، يرتدي ملابس ليس بها ما يلفت من الشكل و اللون، ينصت بإمعان، ولا يبادر أحدا بالحديث, أو الجلوس الى جواره .. تكاد لا تشعر بوجوده, فحتي لو وجه للمرشد سؤالا عاديا, يبدو و كأنه في غاية الدهشة والشغف و الرجاء للرد و الشكر الجزيل لهذا التفضل بالاستجابة.

مع ما ظننته من مبالغة منه في التأدب بحكم تقاليد موروثة, لا تتيح للفطرة التلقائية الانطلاق والتمتع بالحياة بعلاقات قلبية مثمرة و مبهجة, إلا أنني بحثا عما هو وراء تلك الأفكار المسبقة, قررت مشاغبته بالتدريج.

بدأ الحديث نمطيا ,معلومات أولية نتبادلها عن كل منا. هو أستاذ جامعي في علم القانون الجنائي, لكن بلاده ليس فيها من الجنايات ما يكفي لشغل أوقات عمله, فتوفده في أجازات دورية لعدة أشهر في بلدان أخري, ينهمك فيها بمزيد من البحث في المكتبات بمجال عمله للتعرف علي التجارب الدولية , بالإضافة الي اهتماماته الثقافية, لإثراء نفسه بفنون وآداب و تاريخ و معارف تلك الدول.

لكن تواضعه و عقليته الباحثة المندمجة تجعلانه يمتنع عن التفاخر بالنفس, و عن البحث عن تقدير الغير واهتمامهم بمشاركتهم الحديث في مجال عمله,بل يطلق تلك العقلية لاستكشاف المزيد من مصادر المعرفة المتاحة من حوله.

وهكذا بدأ الحديث عن السياسة التي جلبت أحداثها في العالم العربي استقطابا و خلافات شخصية وتجريحا و تخوينا, لأستكشف أنه متابع جيد, ينصت باهتمام’ و يزن الأمور من جديد, فيبدي التقدير البالغ إذا اقتنع بشيء , أو تلقي معلومة هامة. يتحدث علي مهل, و يجاهد للتعبير بأدق و أرق الكلمات,التي يضغط على حروفها عند النطق, لتنقل صدق القناعة و الشغف. و يبدو و كأنه طرف “حاني” علي مرامي الجميع, يستوعب الكل, حتي تكاد لا تصدق أنه من الممكن أن يعادي أحدا, أو يغضب من أي استنتاج أو حقيقة يسمعها. و لو استؤنف الحديث في يوم تالٍ لوجدته قد رجع الى مقالات و كتابات علي الشبكة العنكبوتية, و يجيء لمقارنة الأفكار واستئناف البحث بدهشة طفل, واندماج باحث,و تفاني ناسك, جعل من مكتبته صومعة, تنسيه الوقت و الجهد و المألوف من مباهج الحياة, حتي تكاد تصدق أنه قد تخلي عن الأنا.

عدنا بعد الرحلة الى فيينا, و تعددت اللقاءات لممارسة الرياضة, فوجدته دائما مستعدا بعيدا عن الاشتراط لمشاركة, قد تظنها مجاملة, و لكن تثبت الأحداث أنه يتمتع برغبة كريمة في إسعاد الآخر, ومرونة بالغة مع اكتفاء واستقلالية, يستطيع بها أن يستفيد و يتمتع بالوقت المشترك بشكل ما وبلا حدود.

تكشف الأيام عن مدى الصدق و الالتزام, إذ تجده يجاهد للبحث عن أقيم هدية يسعد شريكة حياته بها, مهما كلفته, تجده يدعوك في أفخم المطاعم لتتعرف علي مأكولات بلاده علي أفضل وجه. يحدد الموعد قبلها بأسبوع, ويجيء قبل الموعد, ويشكر لك قبول الدعوة. ثم يبعث برسالة إليكترونية بعد المناسبة معبرا عن مدى سعادته و شكره للمشاركة.

شاهدت في التلفاز حفل نهاية العام للموسيقى الكلاسيكية, الذي يحضره نجوم المجتمع و مشاهير السياسة و الفن من النمسا و العالم, فوجدت الكاميرا مسلطة عليه تكرارا.سألته في مقابلة تالية إن كان من الحاضرين , فرد بتواضع بالإيجاب, لأنه حصل على تذكرة بسعر مخفض, واستجابة لفضولي أفاد بأنه ستمائة وأربعون يورو. ويقينا ما لم أشاهده في التلفاز لما أثار الأمر من أساسه.

في غمرة مشاغل الحياة التي يخوضها بعض منا, بقدر من الوحدة, و قدر من البحث عن التقدير, وقدر من التعجل, قد لا نستطيع أحيانا ان نتجنب البحث عن نقاط تميزنا عن الآخرين, و لا نقدر علي استبعاد الافكار المسبقة و المصالح الشخصية, فننتج عالما من الصراع, البقاء فيه للأقوى, حتي لو كان بأمان مؤقت, و علي حساب الآخرين, حتي لو أثار ذلك مشاعر سلبية كالعداء و الكراهية و تلوث الصفاء. و لكن ماذا لو تمهلنا لنمعن النظر في من حولنا, فقصة ذلك الصديق التي نسجها فضولي قد تظهر شيئا جديدا؟ ماذا لو لم أكن ألاحظ في ذلك الصديق مدى العناية و التفاني و التواضع و الدقة والكرم و المصداقية و الرقة و التأدب و الحساسية و الحنان؟ الإنسان عدو لما يجهله, فلماذا لا نفهم ثقافات و تقاليد تلك الشعوب, لننتقي ما يناسبنا؟

سألته عما يميز المجتمع الياباني, فأجاب بأنه الانتماء للمجموع, و ليس للفرد. فهل يحقق ذلك الانتماء الطوعي السلام للجميع و مصلحة الفرد كحصيلة نهائية؟ و هل امتدت  تلك المسالمة من بعضهم الي المستوي العالمي من خلال علاقاتهم الفردية بالأجانب؟ تساؤلات قد تريدون إعمال الفكر فيها, إذا ما أعجبكم ذلك الصديق.