الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الكفاح لتحقيق الحلم

د. هادي التونسي
د. هادي التونسي

تخيل لو استيقظت ذات صباح وشعرت بانتعاش، وأمكنك في خلال نصف ساعة أن تتناول إفطارك وتستحم وترتدى ملابسك الأنيقة وتترك شقتك مرتبة، ثم تمر في شارعك النظيف بمنازل جميلة لها حدائق صغيرة يتفنن في رعايتها السكان لتصل إلى مكتب بريد أو مصلحة حكومية، يقابلك فيها موظف بشوش متعاون يعلم دقائق عمله ويؤديه بسرعة وكفاءة ويقترح الحلول المنطقية لأية عقبة تواجهك وكأنه شريك متضامن، وأنك انصرفت شاكرا لتلحق بموعد توقف الحافلة العامة على المحطة فتأتى دون تأخير أو ضجيج، وتجد فيها مقاعد خالية وأناسا تنطق وجوههم بالحيوية والاسترخاء والود.

تصل إلى عملك في موعدك تماما لتجد مكاتب حديثة أنيقة عملية متجانسة، وزملاؤك يعملون فى هدوء حتى يعودون إلى منازلهم في مواصلات مريحة خطوطها متشابكة فلا يحتاجون لاستخدام السيارات إلا للخروج من المدن في نزهات خلوية في نهاية الأسبوع، لو لم يريدوا الارتباط بمواعيد وخطوط القطارات والطيران.

تخيل أن النظام والهدوء يسودان المدينة، وأن طاقات المواطنين موجهة للعمل والمتعة، وأنهم متحابون متضامنون، يتعاملون باحترام ومصداقية، ويشعرون بأمان تحت مظلة قوانين تحمى مصالحهم وتصون حقوقهم وتنظم العلاقات فيما بينهم والدولة، وأنهم يحسون بانتماء وفخر بوطنهم، ويحاسبون سياسييهم على وعودهم الانتخابية، ويطلعون على الحقائق السياسية المحلية والخارجية، ويتضامنون مع الشعوب المقهورة وحقوق الإنسان.

تخيل أن الرياضة وحفلات الموسيقى والمسرح والمتاحف هي وسائل الترفيه المختارة، وأن الأصدقاء يلتقون في مقاهٍ أنيقة وحدائق جميلة بكل حي، وأن محال الشراء على جاذبية بضائعها ليست أكثر ما يجذب الناس، وأن الثقافة والفنون والقراءة تلهمهم الابتكار والتطور وتقربهم من إنسانيتهم وفهم حقائق الحياة وترقى بأسلوب حياتهم وتهذب تعاملاتهم.

يدرك بعض منا أن ذلك ليس وصفا لمجتمعات خيالية، لأنه زار مدنا مماثلة كان ذلك طابعها العام، وأن ما بها من انحرافات أو جرائم هي استثناءات تثبت القاعدة، بل إن مدنا كهذه كانت دمارا خلفه حروب، وأعقبتها مظالم وسلوكيات تتنافى مع الكرامة الإنسانية، أملتها ضرورات البقاء ونزعات وغرائز وطبائع الإنسان، ولكنهم نفس الأفراد الذين بنوا بإراداتهم وعلومهم واجتهاداتهم ونظمهم مجتمعاتهم من جديد.

كما أن مجتمعات اخرى كانت منذ خمسين عاما أو يزيد ريفية أومتخلفة ومنغلقة وفقيرة، ولكنها استطاعت بتعليم رشيد ودون ثراء بالموارد الطبيعية أن تدفع بالتنمية البشرية وتخلق إنسان المستقبل، فردا يشب على أولويات قيمية وسلوكيات – تتفق وجوهر الأديان – يتحقق من خلالها التقدم والرفاهية والسلام والعدل، فيتعلم الطفل منذ نعومة أظافره آداب التعامل والاحترام والتسامح والنظام والجماليات وحب الطبيعة والنظافة والصدق والجدية والاستقامة، ينمون فيه الخيال والمواهب، ويشجعونه على التعبير الحر والتلقائية والابتكار، يعودونه على التفكير النقدي وحل المشاكل والعمل المضني والبحث العلمي والإتقان والتعليم الذاتي وعلى أن يكون دوما مستعدا لتقييم صارم مفاجئ ، يشعرونه بفرديته وحقوقه ويعلمونه تجارب وثقافات الشعوب، ينال المجتهد نصيبه ويحترم الفرد قواعد المساواة والقانون، يقدمون له أعلاما وثقافة وفنونا تحترم عقله وآدميته وترقى بمفاهيمه وأساليبه وفكره وتدفعه للعمل والاختراع من أجل المستقبل والآخرين.

لم يدفع الدمار أو التخلف والانغلاق والفقر هذه المجتمعات إلى زيادة غير محسوبة لتعداد السكان تعبيرا عن اليأس أو إصرارا غريزيا غير مسئول عن البقاء، فلم تستشر فيها أخلاق الزحام واحتفظ الفرد بحيز مريح من المكان والزمان والموارد بل وتناقص التعداد أحيانا إن لم يتوازن، والنتيجة هي التنمية والبشرية والإنتاجية وما أصبحت عليه تلك المجتمعات الآن ، وقد يتطلب الأمر أيضا في مصر مشروعات للتنمية الريفية وللخروج من الوادي ولتفريغ المدن من الازدحام ووقف الزيادة السكانية.

يتكامل مع التعليم والثقافة والإعلام تطور - ولو تدريجي - في ظل الاستقرار والسلام والتنمية وعلاقات خارجية مواتية نحو مجتمع ديمقراطي ينظم العلاقات بين الأفراد ومع الدولة، ويوفر خدمات متقدمة، ويتيح حسن توجيه وتنمية طاقات الأفراد والتعبير عن مواهبهم بقوانين متماسكة تطبق بحزم وتكفل حقوق وحريات الأفراد وأمنهم الشخصي و الصحي والاجتماعي، وهكذا يتحول الصراع من أجل البقاء من عشوائية لا أخلاقية تعيسة أنانية ومدمرة إلى تنافس منظم سلمى ومتحضر وبناء لصالح الإنسان والمدنية، ويصبح الخيال حقيقة، والصراع من أجل البقاء كفاحا لتحقيق الحلم.