تُعدُّ الكلمة ثمرة اللسان وأداة البيان، وقد منح اللَّه الإنسان نعمة النطق بالكلمات، وميزه بها عن سائر المخلوقات، وأمره بحسن انتقائها واستخدامها فيما يرضيه عزَّ وجلَّ؛ فالكلمة هي مناط الثواب والعقابه، وهذا يتضح من خلال الحديث النبوي؛ فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أنه سمع النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يقول: «إنَّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه، لا يُلقي لها بالًا، يرفعه اللَّه بها درجاتٍ، وإنَّ العبد ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه، لا يُلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم» [رواه البخاري]؛ ففي هذا الحديث بيَّن لنا النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أثر الكلمة وما يترتب عليها من أجرٍ أو وزرٍ، حتى إنَّ العبد ليتكلم بالكلمة مما يرضاه اللَّه ويحبه، لا يلقي لها بالًا أي: لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر في عاقبتها ولا يظن أنها تؤثر شيئًا؛ فلا يلتفت لها قلبه وباله؛ لقلة شأنها عنده، فيرفعه اللَّه بها درجات في الجنة، وإنه ليتكلم بالكلمة الواحدة مما يكرهه اللَّه ولا يرضاه، لا يلتفت باله وقلبه لعظمها، ولا يتفكر في عاقبتها، ولا يظن أنها تؤثر شيئًا، ولكنها عند اللَّه عظيمةٌ في قبحها، فيهوى بها أي: ينزل ويسقط بسببها في درجات جهنم.
إن أكيس الناس من تكلم بعلم، أو سكت بحلم، ورحم اللَّه رجلًا قال خيرًا فغنم، أو سكت فسلم، وقال الإمام الغزالي: "فمن أطلق عذبة اللسان، وأهمله مرخي العنان؛ سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى جرفٍ هار إلا من قيده بلجام الشرع، وكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله"، وعن آفة اللسان قال الإمام ابن القيم: "وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص الإنسان من أحدهما لم يخلص من الأخري وهما: آفة الكلام، وآفة السكوت، وقد يكون كل منهما أعظم من الأخري في وقتها؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس عاص للَّه مراء مداهن إذا لم يخف علي نفسه، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاص للَّه، وأكثر الخلق منحرفًا في كلامه وسكوته، فهم بين هذين النوعين، وأهل الوسط هم أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم عن الباطل وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة".
تبرز أهمية الكلمة وأثرها العظيم في كونها سلاح ذو حدين؛ فيرفع اللَّه بها أقوامًا، ويحط بها آخرين؛ فالإنسان يدخل الإسلام بكلمة، ويخرج منه بكلمة، ويبني بيتًا وأسرة بكلمة، ويهدم بناءً ويفرق جمع أسرة بكلمة، ويدخل الجنة بكلمة، ويسقط في النار بكلمة، وتشتعل الحروب بكلمة، كما يقال: فإن الحرب مبدؤها كلامُ؛ فإن للكلمة أثر عظيم في توجيه حياة الإنسان، سواءً إلى السعادة أم إلى الشقاء؛ فإذا كانت الكلمة طيبة فأنها تؤلف القلوب، وتصلح النفوس، وتذهب الحزن، وتفتح أبواب الخير، وتغلق أبواب الشر، وتزيل الغضب، وتشعر بالرضا والسعادة، وتنشر الألفة والمودة في المجتمع وتعمق أواصر الوحدة بين الناس؛ أما إذا كانت الكلمة خبيثة فتهدم المجتمعات، وتدمر الأخلاق، وتخرب العلاقات، وتصنع العداوة، وتزرع التفرقة والكره والحقد في النفوس، والقسوة في القلوب، وتشعل الفتن، وتسمم الأفكار، وتدعو إلى الشر.
وتسبب الكلمة الغير طيبة للشخص ألمًا نفسيًا أكثر بكثير من الألم الجسدي؛ فالأذى النفسي أشد إيلامًا من الأذى الجسدي، بالإضافة إلى كسر الخواطر، والناس دائمًا يذكرون الخطأ، ولا يذكرون الصواب أبدًا، ولذلك قال الإمام الشافعي:
إذا شئت أن تحيا سليمًا من الأذى .. ودينك موفور وعرضك صيّن
لسانك لا تذكر به عورة امرئ .. فكلّك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبًا .. فدعها وقل: يا عين للناس أعينُ
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى .. وفارق ولكن بالتي هي أحسنُ، وأخيرًا..، نسمع مقولة: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك؛ فيجب على الإنسان أن يخاطب الناس كما يحب أن يخاطبوه.
الدكتور صفوت محمد عمارة
من علماء الأزهر الشريف.