الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

العالم كما يراه بوتين.. هل ظلم النظام الدولي روسيا وأجبرها على الانقلاب ضده؟

الرئيس الروسي فلاديمير
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطابًا ناريًا في 30 سبتمبر، أعلن فيه أنه يعتزم مواصلة غزو أوكرانيا وأن أوكرانيا وشركائها الغربيين هم المحرضون الحقيقيون على الحرب، وفي خطابه قدم بوتين صورة للعالم باعتباره تكتلًا من دول غربية تحاصر روسيا وتتربص بها، وأبدى تصميمه على رسم مسار مختلف تمامًا لدور روسيا في العالم.

ويتمثل النظام الدولي الذي هاجمه بوتين بشراسة في خطابه في مجموعة من المؤسسات والمعايير الدولية التي تم تطويرها بعد الحرب العالمية الثانية لمنع المزيد من الصراعات العالمية.

عالم ما قبل بوتين

وفي تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، ذكرت أنه يمكن تقسيم تاريخ النظام الدولي الحالي إلى مرحلتين: قبل وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي في عام 1991. لكن مكان روسيا في هذا النظام الدولي معقد لأنه تطور بمرور الوقت لاحتواء الاتحاد السوفيتي الشيوعي ثم استيعاب روسيا في طورها الجديد بعد سقوط الاتحاد.

بعد الحرب العالمية الثانية، تم تأسيس شبكة مالية متقنة من مؤسسات الائتمان مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لتحسين التعاون الاقتصادي بين البلدان، وبغرض منع المنافسة الاقتصادية الضارة التي تسببت في الكساد الكبير وخلق الظروف لظهور الفاشية في فترة ما بين الحربين العالميتين. وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفيتي شارك في المفاوضات التي أوجدت هذه الركيزة المالية للنظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، فإن رفضه التصديق على الاتفاقيات التأسيسية دشن حقبة الحرب الباردة.

ومع تحول فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى المنافسة بين الدول الرأسمالية والشيوعية، أصبحت النزاعات العسكرية بين الدول القوية أكثر احتمالا، وتأسس حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عام 1949 كشكل من أشكال ترتيبات الأمن الجماعي القادر على ردع النزعة العسكرية السوفيتية. وكانت هذه هي الركيزة الثانية للنظام الدولي، القائمة على مؤسسات مثل الأمم المتحدة التي تأسست لتسوية النزاعات بالطرق الدبلوماسية عوضًا عن الحروب.

وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفيتي ظل في عزلة نسبية عن العالم الغربي خلف ما أطلق عليه الأخير "الستار الحديدي"، فإنه ظل يتمتع بنفوذ وتأثير وإن كان محدودًا من خلال مشاركته في الأمم المتحدة، ومن خلال التوسط في اتفاقيات الحد من الأسلحة مع الولايات المتحدة.

وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، أصبح النظام الدولي القائم على القواعد ترتيبًا عالميًا، وأصبحت الجمهوريات السوفيتية السابقة والدول غير المتحالفة مع أي من الجانبين خلال الحرب الباردة شركاء شرعيين في مجتمع دولي حقيقي، وساعد ذلك روسيا في التغلب على بعض العقبات التي واجهت تحولها عن النظام الشيوعي المنغلق والعودة إلى وضع القوة العظمى.

سقوط الاتحاد السوفيتي وصعود بوتين

من المؤكد أن بوتين ليس أول من انتقد النظام الدولي وسعى للخروج عليه ولا الوحيد الذي فعل ذلك، ويشير خبراء ومؤرخون إلى أن الولايات المتحدة كثيرًا ما تخرب قواعد النظام وروحه من خلال الإطاحة بالحكومات الأجنبية وإجبار الدول الأصغر على دعم قضاياها. لكن على مدار العقدين الماضيين، يمكن القول إن روسيا قد استفادت أكثر من النظام القائم على القواعد في مرحلته الثانية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

في عام 1998، تسببت أزمة مالية في تخلف روسيا عن سداد ديونها، وانخفاض قيمة عملتها الروبل، واستنزاف احتياطياتها الأجنبية، وأضرب عمال المناجم الروس بسبب عدم دفع أجورهم، والتي تأخر بعضها لأكثر من عام. وكان الدين الخارجي لروسيا مرتفعًا أيضًا، وجزء كبير منه مستحق لصندوق النقد الدولي الذي أقرض مبالغ ضخمة لروسيا من أجل منع انهيار اقتصادها كليًا. اعتمدت روسيا على هذه المساعدة، فضلاً عن رأس المال الأجنبي، لبناء نظام اقتصادي كلي مستدام.

وفي المجال العسكري، عانى الجيش الروسي من وضع مزر بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وعلى الرغم من الانهيار السلمي نسبيًا للاتحاد عام 1991، اندلعت حرب استقلال الشيشان في 1994، وبعد ست سنوات عندما صعد بوتين إلى السلطة عام 2000 لم تكن موازين الحرب في الشيشان لصالح الجيش الروسي.

ولأن القوة العسكرية والاقتصاد مرتبطين بقوة، لم يكن من المستغرب أن ينخفض ​​الإنفاق الدفاعي لموسكو إلى مستويات منخفضة تاريخيًا في أواخر التسعينيات، حيث تم ضغط النفقات الحكومية بسبب أزمة الديون، وأدى ذلك إلى تغيير تقديرات القوة العسكرية الروسية، وعلى حد تعبير أحد المراقبين كان لدى روسيا "جيش أجوف".

روسيا بوتين واستعادة العظمة

سرعان ما استثمر بوتين الترحيب الدولي الذي رافق صعوده إلى السلطة لتحسين مكانة روسيا العالمية، وآنذاك كان خصوم الاتحاد السوفيتي السابق في أوروبا إبان الحرب الباردة متحمسين للاستثمار في صناعة الطاقة الروسية، بل إنهم أصبحوا يعتمدون على روسيا في تلبية احتياجاتهم من الطاقة. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت أكبر أربع شركات خدمات نفطية في العالم منخرطة بشكل كبير في روسيا واستثمرت في توسيع قدرات التنقيب عن النفط والإنتاج خلال العقدين الماضيين من حكم بوتين.

استخدم بوتين هذه الثروة المكتشفة حديثًا من أسواق الطاقة الدولية لرفع مكانة روسيا في النظام الدولي القائم على القواعد، وكان من أوائل الأشياء التي قام بها بعد توليه منصبه في عام 2000 هو السعي لتحقيق نفس مستوى المعيشة السائد في أوروبا الغربية.

ولتحقيق ذلك نصب بوتين نفسه باعتباره مصلحًا، ودعا إلى قوانين ضريبية جديدة تشجع الشركات الصغيرة وإصلاح الملكية العقارية، مما أدى إلى إلغاء القيود المعقدة التي فرضتها روسيا قبل قيام الاتحاد السوفيتي وبعد سقوطه على مبيعات الأراضي. وبموازاة ذلك، أحاط بوتين نفسه بمستشارين مؤيدين لاقتصاد السوق المفتوح، والذين روجوا للسياسات المالية التي دمجت روسيا في الاقتصاد العالمي مع جعل روسيا أيضًا مؤثرًا رئيسيًا.

ولفترة من الوقت نجح نهج بوتين، وحققت روسيا معدلات نمو سنوية تراوحت بين 5 و10 بالمائة في العقد الأول من حكمه. وبطريقة ما، أصبحت روسيا سابع أكبر اقتصاد في العالم، وفي عام 2012 ، ساعدت إدارة الرئيس الأمريكي السابق أوباما في تمهيد الطريق أمام روسيا للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وكانت آخر الاقتصادات العشرين الأكبر في العالم تفعل ذلك، ودشن ذلك دخول روسيا كلاعب رئيسي في الاقتصاد العالمي، الذي يُعد أحد أعمدة النظام الدولي القائم على القواعد.

جاء هذا التطور على الرغم من المخاوف بشأن تدخل روسيا في الشئون السياسية لجيرانها، بما فيهم أوكرانيا، فضلاً عن انتهاكها لسيادة الدول الأخرى مثل غزوها لجورجيا في عام 2008. في الواقع، كانت هناك رغبة دولية في تجنب الدخول بمواجهة شاملة مع روسيا، وفهم بوتين ضبط النفس العسكري هذا من جانب المجتمع الدولي، خاصة بعد هزيمة الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، واستغله باستمرار.

بالعودة إلى خطاب بوتين في 30 سبتمبر، يمكن قراءة ما بين سطوره لإدراك أن بوتين لم يعد يريد المشاركة في النظام القائم على القواعد، وهذا أمر بالغ الخطورة، ليس لأنه يعيد روسيا إلى وضعها السابق على هامش النظام الدولي فحسب، وإنما لأنه يعني أيضًا أن الشروط الكلاسيكية للحرب والتي صُمم النظام القائم على القواعد لمنعها، مثل العزلة وعدم الاندماج في الاقتصاد العالمي والعسكرة المنفلتة عن السيطرة، كلها قد عادت.