قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

مونيكا وليم تكتب: غزة بين التجويع والصفقات.. تشابك المسارات وتغيّر المواقف

مونيكا وليم
مونيكا وليم

يبرز المشهد الإقليمي والدولي تسارعًا لافتًا في وتيرة الأحداث المرتبطة بالصراع في غزة، وسط تشابك واضح بين الأطراف الفاعلة، بحيث لم يعد من الممكن قراءة أي تحرك سياسي أو دبلوماسي بمعزل عن السياق العام أو عن الحسابات المتبادلة بين هذه الأطراف. فكل معطى جديد، سواء كان سياسيًا أو ميدانيًا أو إعلاميًا، بات يُحدث تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر في مسار الأزمة وتوازناتها.
وقد كشفت التطورات خلال الأسبوع الأخير من يوليو 2025 عن تحول واضح في مقاربات بعض الفاعلين الأساسيين في الملف الفلسطيني، لا سيما من حيث الخطاب والسلوك السياسي، وهو ما يتضح من خلال خمسة معطيات محورية تعكس تغيرًا في الأولويات وتباينًا في زوايا النظر تجاه الحرب في غزة، والكيفية المثلى للتعامل معها.
أولاً، افتتاحية نيويورك تايمز التي حمّلت إسرائيل المسؤولية المباشرة عن الكارثة، بسبب سيطرتها العسكرية على معظم أجزاء القطاع.، خاصة أن الصحيفة رفضت مبررات حكومة نتنياهو بشأن سرقة المساعدات من قبل حماس، معتبرة أن السبب الحقيقي هو ضغوط اليمين الإسرائيلي لوقف المساعدات عن المؤسسات الدولية.
تعكس هذه الافتتاحية في واحدة من أهم الصحف الأمريكية تحولًا تدريجيًا في الخطاب الإعلامي والسياسي الأمريكي تجاه الأزمة في غزة، ويشير إلى أن الحصار لم يعد يُنظر إليه كوسيلة ضغط سياسية، بل كجريمة أخلاقية وإنسانية.
ثانياً، في الوقت الذي تتفاقم فيه المأساة الإنسانية في قطاع غزة، وتتصاعد فيه الانتقادات الدولية لإسرائيل على خلفية الحصار والتجويع، تبرز أزمة سياسية من نوع مختلف تعكس حجم الارتباك الاستراتيجي داخل حركة “حماس”، والانعكاسات العميقة التي تترتب على خطابها المتجاوز لحدود اللياقة الدبلوماسية، لا سيما تجاه الدول العربية التي لطالما أدّت أدوارًا مركزية في دعم القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها مصر والأردن.
لم تكن التصريحات الأخيرة لخليل الحية، أحد أبرز قيادات “حماس”، والتي دعا فيها شعوب مصر والأردن إلى “التحرك ووقف الجريمة ومنع تقسيم الأقصى، سوى مؤشر على أزمة أعمق داخل الحركة، تتعلق بخلط واضح بين مقاومة الاحتلال وبين محاولة تصدير الأزمة عبر استعداء الدول الحاضنة للقضية الفلسطينية.
تلك التصريحات أثارت غضبًا رسميًا وشعبيًا في كل من القاهرة وعمّان، حيث تم اعتبارها تجاوزًا للخطوط الحمراء، خاصة انه مع استقراء السياق السياسي المصاحب، فقد يتبين أن هذه الرسالة لم تكن عبثية، بل بدت متماهية مع تحركات جماعة الإخوان المسلمين التي تحاول استغلال الأزمة لمهاجمة الأنظمة الوطنية، وتقديم مصر كطرف متواطئ في الحصار، وهي رواية تتهاوى أمام الحقائق الميدانية والدبلوماسية، والتي تبرز الدور المصري من خلال مسارات متعددة الأركان منها الدبلوماسي والسياسي وأيضا الإغاثي 
فقد شهدت بعض السفارات المصرية مظاهرات يقودها عناصر محسوبة على “الإخوان”، بهدف الاتهام بالتقاعس عن فتح معبر رفح، بينما تتجاهل هذه التحركات عمداً العراقيل الإسرائيلية.
ثالثاًـ، الأزمة في غزة في الحقيقة تتجاوز في جوهرها البعد الإنساني إلى كونها ورقة مساومة في لعبة سياسية كبرى ضمن الصراع الإقليمي والدولي. وفي هذا السياق، تتبدى محاولات إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لإعادة هندسة المنطقة عبر توسيع اتفاقيات إبراهيم، لتشمل دولاً مثل أذربيجان وبعض جمهوريات آسيا الوسطى، في وقت تتعثر فيه المفاوضات مع السعودية بسبب رفضها التطبيع دون وقف الحرب وتحقيق حل الدولتين.هذا التوسع في الاتفاقيات، رغم طابعه الرمزي، يعكس محاولة واضحة لتحويل اتفاقيات إبراهيم إلى منصة إقليمية لتوسيع النفوذ الأمريكي والإسرائيلي، مع تجاهل صارخ للأوضاع في غزة.

رابعاـ وهو ما يتزامن مع التقديرات التي تشير من قبل دوائر قريبة من ترامب لإعادة النظر في مواقفه. فقد زار مبعوثه ستيف ويتكوف غزة، في تحول رمزي، تبعه تصريح من مسؤول في البيت الأبيض يقرّ بوجود “مخاوف جديدة” بشأن الوضع الإنساني، رغم أن ترامب لم يغيّر موقفه الأساسي بأن “حماس مسئولة إلى حد كبير عن الأزمة ومع ذلك، تراجع الدعم الشعبي الأمريكي لإسرائيل بشكل غير مسبوق، حيث أظهر استطلاع مؤسسة “جالوب” تراجع نسبة الدعم إلى 32%، وهو الأدنى تاريخيًا.
كما أن ثمة مؤشرات التحول داخل البيت الأبيض وتفكك الإجماع حول إسرائيل والذي يعد ربما الأخطر بالنسبة لإسرائيل، وهو ما يتبلور من تحول داخل تيار “ماج MAGA” الشعبوي، الذي يمثّل قاعدة ترامب الصلبة. فقد بدأ رموز هذا التيار علي غرار ستيف بانون وتاكر كارلسون  بالتشكيك في جدوى العلاقة الخاصة مع إسرائيل، واعتبار أن الدعم غير المشروط لها يتعارض مع شعار “أميركا أولاً”.
هذا التحول داخل التيار اليميني المحافظ وخاصة في أوساط الشباب يؤشر على تآكل الدعم التاريخي لإسرائيل داخل المؤسسة السياسية الأمريكية، وهو ما يقلق الدوائر الإسرائيلية بشدة.
خامساً، في موازاة التحولات الأمريكية، كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت عن مؤشرات توافق عربي نادر يدفع باتجاه إجبار “حماس” على مغادرة غزة. وقد صدر عن مؤتمر أممي استضافته فرنسا والسعودية ما عرف بإعلان نيويورك”، الذي يدعو لإنهاء حكم “حماس” وتخليها عن سلاحها، بموافقة من قطر وتركيا وهما أبرز داعمي الحركة.
تشير هذه التطورات إلى أن الحركة باتت معزولة إقليمياً إلى حدٍ لم يعد بإمكانها تجاهله، خاصة مع تراجع شعبيتها ومقتل معظم قياداتها الميدانية، وعجزها عن تنفيذ ضربات نوعية.
لكن من غير المرجح أن تقبل “حماس” بهذه الترتيبات إلا تحت ضغط خانق وشروط تحفظ الحد الأدنى من نفوذها، وهو ما يفتح الباب أمام مماطلة سياسية أو رفض جزئي أو كامل.

ختامًا، بالنظر إلي أننا أمام مفترق طرق تاريخي في القضية الفلسطينية. فإما الانخراط في حل سياسي حقيقي بقيادة إقليمية ودولية، أو استمرار الحصار والمعاناة التي تهدد بانفجار أكبر، لن يكون في مصلحة أحد.
على “حماس” أن تدرك أن الزمن لا يعمل لصالحها، وأن الرأي العام العربي والدولي لم يعد يحتمل العبث بمصائر الناس، وأن الاستقواء بالمأساة دون رؤية سياسية واقعية لم يعد مقبولاً  
و على جيش الاحتلال الإسرائيلي أن يُدرك أن حسابات القوة لم تعد وحدها كافية لحسم مسار الصراع، وأن المجتمع الدولي بدأ يصحو من صمته الطويل أمام الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزة. فالمواقف تتبدل، والاصطفافات تتغير، والتأييد غير المشروط لإسرائيل بات موضع مساءلة حتى داخل أكثر الدوائر دعمًا لها.

وإزاء هذا التحول، لم يعد هناك من خيار سوى الذهاب نحو وقف شامل وفوري لإطلاق النار، يضع حدًا للحرب المستمرة، ويفتح الباب أمام معالجة سياسية جادة تستجيب لتطلعات الشعب الفلسطيني، وتحفظ ما تبقى من استقرار إقليمي يوشك أن يتهاوى.