الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هند عصام تكتب: 40 يومًا على الفراق

الكاتبة: هند عصام
الكاتبة: هند عصام

كالعادة.. عندما كنت جالسة أعكف على كتابة مقالاً عن الملك خوفو  وبالتحديد يوم 28 مارس 2023 م، ليلة السادس من رمضان 1444 هجرية، كانت أمى تقوم بتحضير السحور وأختى نغم تحضر درس أون لاين وجاء أخى محمود يلهو ويضحك كعادته وأخى محمد بالخارج يلعب مباراة في دورة رمضانية، وأبى الغالى يغفو فى الغرفة المجاورة.

انهالت علي مجموعة من الذكريات وأنا اكتب عن الملك خوفو وتذكرت رحلتى المدرسية إلى الأهرامات وأنا فى الصف الثالث الأعدادى وكانت ترافقنى ابنة خالتى دينا وأصدقاء الطفولة وإلى آخر العمر حورية وهند ورضا، وبدأت أبتسم أبتسامة خفيفة مصحوبة بدموع عندما تذكرت أستاذ اللغة العربية أستاذ شبل رحمة الله عليه وكان صديق والدى عندما كان يتعامل معى على أنى سائحة أجنبية ويقول لى “هاى” وبدأت اترحم عليه وعيونى تفيض من الدمع مع ابتسامة خفيفة ولا أعلم أن الملائكة تملأ بيتنا في هذا التوقيت لتأخذ أبى الغالى إلى الرفيق الأعلى ويلحق بأخيه و أبيه وأصدقائه.

لم أكن أعلم أن كبوة أخرى تنتظرني بعد أن بدأت أستعيد قواي بعد كبوة الحادث الذى حدث معى منذ عدة سنوات، وأنتهيت من كتابة المقال ومراجعته وعلى الفور أرسلته إلى أستاذتى وصديقتى الغالية رشا وكانت الساعة الثانية وخمس دقائق بعد منتصف الليل وكانت أمى قد إنتهيت من إعداد الطعام ليدخل علينا أخى محمود ويقول لنا أن أبى كان يتحدث معه  وأراد أن يقبله ولم يلحق وأصبح لا يتحدث، نزل علينا الخبر كالصاعقة وهُرولت أمى وأخى إليه وانا لا أعرف كيف أتصرف سوى أن أبكى  بصوت مثل الأطفال لدرجة صحوة أختى من غفوتها وكل هذا وكان فى اعتقادى أن أبى فى غيبوبة السكر فكيف يموت وهو من أخبرنا بأن الساعة قد أصبحت الثانية بعد منتصف الليل كيف وصوته فى أذنى حتى الآن. 

جاءت أمى إلي مرة أخرى لتخبرنى أن أبى قد توفي وفارق الحياة، لا لا لا ليس حقيقى وانا لا أصدق وأمنع من يقول هذا وأوبخه إلى أن أتى أخى بالطبيب الذى أكد خبر الوفاة ليصبح لا مفر من شكوكى وأصبح الأمر حقيقة لا يصدقها أحدُ منا فى لحظة توقف فيها كل شىء وكأنها الساعة. 

وأمتلأ المنزل علينا بالأقارب وأخذو أبى الغالى إلى الطابق الأسفل حيث تمكث جدتى من غير وداع لياخذ قلبى معه وانا ماكثة فى مكانى لم أتحرك، قلبى فقط وحده من يتحرك وينفطر قلبى كلما سمعت بكاء أمى وعويل جدتى وانفطر قلبى أكثر وأكثر وزاد البكاء ضجيج عندما سمعت المنادي ينادى بأنى أبى الغالى وافته المنية لتأتى ابنة خالتى جهاد ومكثت بجانبى فى محاولة منها لمواساتى فكانت تتفهم ذلك جيداً وتشعر بما أشعر به فقد مرت بنفس هذا الشعور منذ ثلاث سنوات عندما رحل والدها وظللنا نبكى سوياً إلى شروق الشمس، لياتى أصدقاء الطفولة التؤام هند ورضا ولحقت بهم حورية فى محاولة منهم لمواساتى وإنهال علينا الأهل والأصدقاء والجيران لحين أذان  الظهر. 

أخذوا “بابا حبيبى” الغالى إلى المسجد لصلاة الجنازة وأنا ماكثة فى مكانى لم أستطع فعل شىء سوى البكاء والدعاء وللمرة الأولى التى شعرت فيها إنى عاجزة عن فعل أى شىء هو ذلك اليوم الذى ذهب فيه أبى، وبعد الانتهاء من العزاء بدأت تنهال على الذكريات وكل يوم أشعر بحزن وقهر وهشاشة نفسية أكثر من اليوم الماضى، فهناك مثل هندي يقول "نعرف قيمة الملح عندما نفقده ، وقيمة الأب عندما يموت"، وانا أقول والله إنى أعلم قيمة أبى قبل الموت وأخبرته بهذا أنا وأمى عندما كان مريضاً بأننا نعلم قيمتك فى حياتنا، وسرحت فى عمري كله اتضح أن أبى لم يفارقنى يوماً. 

واتضح أنه من وقت أن خلقنى الله إلى أن فارق أبى الحياة  كل يوم هو فى حياتى كانت تراه عيني، حتى عندما تعرضت لحادث منذ عدة أعوام ومكثت فى المستشفى تسعة أشهر لم يفارقنا أنا وأمى فكان يومياً  ياتى لزيارتنا وعند انتهاء الزيارة أرى فى عينيه حزن شديد و كأنه لا يريد الذهاب وعندما كان يذهب يتصل بى ويبكى ويقولى لى "البيت وحش وملوش لازمة من غيركم" وحينها لا أستطيع الرد من خنقة البكاء واترك الهاتف لأمى لتكمل الحديث معه، أعلم جيداً أنه كان متعلق بى ويفضلنى عن جميع أخواتى فأتذكر عندما كان يقول لى أنا من أحسدك أنا بحسد نفسى عليكى، ويقول لى الكمال لله واحده بس أنتِ فى نظرى كاملة، فمثلما قال الكاتب مينا ندر: "ليس أرق على السمع من كلام الأب يمدح أبنه"، تذكرت أول موضوع نُشر لى فى صدى البلد وكان باسم “هند بدير” وتحدثت مع أستاذة رشا وطلبت منها انى أحب أن ينشر شغلي باسم هند عصام حينها أخبرتني يا حبيبى قلبى أن هند بدير أفضل قولتلك لا هند عصام أفضل بكثير  و كنت على علم و درايه  إنك بينك وبين حالك كنت فى قمة السعادة ورأيت هذا  فى ضحكة عيونك العسلية التى تشبه عيونى  كثيراً. 

وذكرى وراء ذكرى تسحب دمعة والقلب ليس على ما يرام فقد تمزق من يوم رحيلك يا حبيبى وأصبحت أشعر باليتم  الذى لم يخطر فى بالى يوماً بأن أشعر به فكنت لا أعلم بأنى أحبك أكثر من نفسى فلم أحزن على نفسى وقت الحادث مثلما حزنت الحزن الذى أشعر به من وقت فراقك، أعلم  جيداً بأنك الرجل الوحيد الذى أحبنى أكثر من نفسه فأتذكر عندما كنت تأتى معى للطبيب وتقول له "لو ينفع أتبرع لها بحاجه من جسمى وتخف أنا جاهز وكذلك أمى" ، فيضحك الطبيب ويقول لى بابا وماما بيحبوكى جداً، فقد مر 40 يوماً على رحيلك يا حبيب القلب والروح، وأنا ماكثة فى مكاني لا أستطيع فعل شىء سوى البكاء والدعاء، فقد رحلت مبكراً  وكأنك تفعل ما فعله معك أباك وتركت داخلي فراغ وحزن كبير كبير لن ينتهى حتى ألقاك. 

الحزن  يخيم على أمى وأخواتى وأتى العيد ولم يدخل بيتنا فأصبح كل شىء صامت حزين، فمثلما قال واسينى الأعرج : "الأب مثل الروح ، عندما تخرج يتهاوى الجسد"  فمن وقت رحيلك يا حبيبى أصبحت ضعيفة هشة فمن الصعب أن يكسر ظهر المرء مرتين فعندما كسر ظهري فى الحادث لم أشعر به فكنت بجانبى أنت  وأمى بمثابة دواء مخدر لم يشعرنى بآلالم ولم أشعر بألم ووجع  حقيقى غير بعد فراقك يا قلبى ولا أستطيع فعل شىء من بعدك أتظاهر بالثبات ولكن ما حدث كان يؤلمني يؤلمني كثيراً.  

وقد توقف كل شىء، حتى  توقفت عن الكتابة التى لم أَجِد نفسى إلا بها، قد تشاءمت منها  لولا إلحاح صديقى وأخى الغالى أحمد سالم على أن أكتب من جديد، ويعز على الإنسان أن يمشي سبلاً لا يرغبها ولكنها الحياة، و تذكرت بابا حبيبى عندما عَلمَ  بعودتى إلى الكتابة بعد أن توقفت لعدة سنوات بعد الحادث كان يحثنى ويشجعنى على الكتابة، ولن أَجِد أغلى من يشجعني على  أن اكتب من جديد سوى أبى وحبيبى الغالى الذى تمزق القلب وبكى برحيله ولا يصبرنا على فراقك ياغالى سوى أن الله رزقك حسن الخاتمة وأن الجميع يشهد لك بأنك كنت مثالاً لنقاء النية وصفاء القلب  ربنا يرحمك يا حبيبي ويجعل قبرك روضة من رياض الجنة ويسكنك الفردوس الأعلى  من الجنة و يجعل  الجنة دارك و الرسول صلى الله عليه وسلم جارك و السندس لباسك و المسك والعنبر ترابك و الولدان المخلدون خدماً لك.

وأعدك يا حبيبى قلبى الأول والأخير  لطالما قلبى ينبض و يدق لن يكف قلبى ولا لسانى أبداً بالدعاء لك حتى ألقاك وحشتنى جدا جدا جدا.