في قرية صغيرة تُعرف بقرية الفاشلين، كانت الأمور تسير على نحو غريب، كانت القرية تمتاز باختيار الفاشلين وأنصاف المواهب لتولي المناصب الإدارية، فكلما تولى أحدهم منصبًا، كان الفشل يلاحقه، مما أدى إلى استنكار الأهالي لهذا الفشل المتكرر، ومع مرور الوقت، كان يتم إقالة هؤلاء الفاشلين ليحل محلهم فاشلون جدد.
وفي يوم من الأيام، تم اختيار مسئول جديد لمنصب إداري، وعلى عكس التوقعات، نجح هذا المسئول في مهامه، مما أثار حفيظة الفاشلين القدامى.. وبدأ أنصاف المواهب السابقين في الهجوم عليه وتوجيه الرأي العام ضده وفي مواجهة هذا الهجوم، بدأ يردد الفاشلون تبريرا للدفاع عن مصالحهم وأنفسهم.. "لقد نجح سهوا".
من هنا، نجد أن اختيار المسئولين يجب أن يكون وفق ضوابط واشتراطات واضحة في علوم الإدارة.. لن أقول أبرزها ولكن أبسطها: الكفاءة والجدارة فيجب اختيار المسئولين بناءً على مؤهلاتهم وخبراتهم وليس على أساس العلاقات الشخصية أو المحسوبية ثم القدرة على القيادة بحيث يكون المسئول قادرًا على قيادة فريقه بفعالية وتحفيزهم لتحقيق الأهداف ومعرفة عناصر التخطيط الاستراتيجي من خلال رؤية واضحة والقدرة على وضع خطة استراتيجية لتحقيق هذه الأهداف واتخاذ القرارات المستنيرة بناءً على البيانات والمعلومات المتاحة وامتلاك مهارات تواصل فعالة لنقل الأفكار والتوجيهات بوضوح.
لذلك فإن كنا نرغب في إحلال الناجحين بدلا من الفاشلين فإن إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، يجب أن تكون وفق ضوابط واضحة للإصلاح الإداري، تشمل: الشفافية من خلال سهولة الوصول إلى المعلومات وحرية نشر المعلومات والتواصل المفتوح ثم المساءلة عن طريق نظام واضح لمراقبة أداء المسئولين ومحاسبتهم ويمكن ذلك من خلال تأسيس هيئات مستقلة لمراقبة أداء الجهات الحكومية والتحقيق في أي مخالفات وتوفير آليات للمواطنين لتقديم الشكاوى والبلاغات عن أي تجاوزات أو فساد وإلزام الجهات الحكومية بتقديم تقارير دورية عن أدائها ومحاسبة المسئولين عن أي تقصير.
كما يجب توفير برامج تدريبية مستمرة لتطوير مهارات المسئولين وأن يكون هناك نظام لتقييم أداء المسئولين بشكل دوري لضمان تحقيق الأهداف المرجوة والتقييم الدوري بوضع مؤشرات أداء رئيسية (KPIs) لقياس أداء الجهات الحكومية والمسئولين وإعداد تقارير سنوية توضح مدى تحقيق الأهداف وتقديمها للجهات الرقابية والاستعانة بجهات خارجية مستقلة لإجراء مراجعات دورية وتقديم توصيات للتحسين.
سنغافورة نموذج الإصلاح الإداري الناجح
سنغافورة تُعتبر واحدة من أبرز النماذج الناجحة في الإصلاح الإداري، حيث تمكنت من التحول من دولة نامية تعاني من الفساد والبطالة إلى واحدة من أكثر الدول تقدمًا وازدهارًا في العالم.. وهي أصبحت نموذجا علميا في الإصلاح الإداري تمثلت معاييرها في الآتي:
1. القيادة الحكيمة
لي كوان يو، أول رئيس وزراء لسنغافورة، كان له دور محوري في قيادة البلاد نحو النجاح حيث تبنى رؤية واضحة للإصلاح الإداري والاقتصادي، وركز على بناء دولة قوية ومستقرة تعتمد على الكفاءة والنزاهة.
2. الاستثمار في رأس المال البشري
سنغافورة أولت اهتمامًا كبيرًا بالتعليم والتدريب حيث تم تطوير نظام تعليمي يركز على العلوم والتكنولوجيا، مما ساهم في تزويد البلاد بكفاءات عالية قادرة على قيادة التنمية الاقتصادية، كما تم توفير برامج تدريبية مستمرة للموظفين الحكوميين لتحسين مهاراتهم.
3. الشفافية والمساءلة
تم إنشاء هيئات رقابية مستقلة لمراقبة أداء الجهات الحكومية وضمان الشفافية في جميع العمليات، كما تم وضع آليات للمساءلة تضمن محاسبة المسئولين عن أي تجاوزات أو فساد.
4. التخطيط الاستراتيجي
اعتمدت سنغافورة على التخطيط الاستراتيجي لتحقيق أهدافها من خلال وضع خطط طويلة الأمد تشمل جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، وتم تنفيذها بفعالية من خلال متابعة دورية وتقييم مستمر للأداء.
5. جذب الاستثمار الأجنبي
فبدلاً من الاعتماد على السياسات الحمائية، فتحت سنغافورة أبوابها للاستثمار الأجنبي المباشر وساهم هذا في جذب الشركات المتعددة الجنسيات، مما أدى إلى خلق فرص عمل جديدة وتعزيز النمو الاقتصادي.
6. الموقع الاستراتيجي
استفادت سنغافورة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي، حيث أصبحت مركزًا تجاريًا وماليًا عالميًا وهذا الموقع ساعدها في التحكم في حركة التجارة العالمية وتعزيز مكانتها الاقتصادية.
وبفضل هذه السياسات والإجراءات، تمكنت سنغافورة من تحقيق تقدم هائل في جميع المجالات، اليوم، تحتل سنغافورة مرتبة عالية في التصنيفات العالمية المتعلقة بنوعية الحياة، التعليم، الصحة، والشفافية، أصبحت نموذجًا يُحتذى في الإصلاح الإداري والتنمية الاقتصادية.
تجربة سنغافورة تُظهر أن الإصلاح الإداري يمكن أن يكون مفتاحًا لتحقيق التنمية المستدامة والازدهار ويمكن للدول الأخرى الاستفادة من هذا النموذج من خلال تبني سياسات مشابهة تركز على الكفاءة، الشفافية، والاستثمار في رأس المال البشري.