توقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله"، وانطلق سيل كبير من الأسئلة والتكهنات الكبري. فأي مستقبل للبنان بعد انتهاء الحرب؟ أي مستقبل لـ"حزب الله"، وكيف سيواجه تحدي إبعاده عن الخطوط الأمامية للمواجهة، بعد فقدانه زعيمه الرمز حسن نصر الله، ومعظم قادته؟ كيف سيتعامل مع مسألة المقاومة، القضية الأساسية التي نشأ من أجلها، في ظل بقاء الاحتلال؟ ماذا عن محور المقاومة، ووحدة الساحات التي ساهم في إطلاقها؟ ماذا عن علاقته بالجيش اللبناني، المكلف محليا ودوليا، بمهمة حفظ الأمن علي الحدود وفي الداخل؟ كيف سينظر إلي قضية إعادة بناء الدولة والمؤسسات؟ وأين سيكون تموضعه في اللعبة السياسية المحلية؟.
في فجر الـ 22 من يونيو 2024، تحركت حاملة الطائرات الأمريكية "إيزنهاور"، عبر مياه المتوسط إلي القرب من السواحل اللبنانية. حاملة رسالة نارية إلي "حزب الله"، مفادها أن أي تهديد من ضاحية بيروت، سيرد عليه بإعادة لبنان 50 عاما إلي الوراء. جاءت هذه الخطوة، بعد تصعيد خطابي من الراحل حسن نصر الله، الزعيم التاريخي للحزب. الذي توعد بضرب منشأت الطاقة والمطارت الإسرائيلية. لكن الأمريكيين، لم يكتفوا بالتغطية العسكرية لحماية إسرائيل، بل شرعوا في بدء خطة خداع استراتيجي. حسب مراقبين عسكريين. عبر فتح باب التفاوض المباشر مع الحزب، عن طريق مبعوث الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن، والذي حاول اقناع الحزب، بأن المنطقة ستتجه للهدوء، لا للمزيد من التصعيد. وأن اتفاق وقف إطلاق النار، قد اقترب في غزة ولبنان علي حد سواء. ظن الحزب، أن واشنطن، تمهد لصفقة تهدئة، وأن مفاوضات غير مباشرة قد تثمر عن وقف لإطلاق النار. لكن خلف الكواليس، كانت لإسرائيل تعد العدة.
في سبتمبر 2024، بدأت الضربات الإسرائيلية، المركزة فيما عرفت بعمليات "البيجر"، تبعتها عمليات تصفية خاطفة، اطاحت بقيادات الصف الأول والثاني في الحزب. وإن بدا الحزب صامدا، في أكتوبر 2024، إلا أن الجراح كانت عميقة، والخيارات بدأت تضيق. في النهاية، أصر الحزب، علي قبول وقف إطلاق نار فرضه الواقع لا الإرادة. في مشهد تهاوي معه مبدأ وحدة الساحات، الذي بناه "نصر الله"، بعد حرب 2006. وسقطت شعارات تعدد الجبهات، أمام الضربات المركزة، وفقدان الإمدادات. وبينما كانت القيادة الجديدة للحزب، تعيد لململة الجراح. جاءت الضربة الثانية. من سوريا انقطع الخط الإيراني الواصل عبر العراق فسوريا، إلي الجنوب اللبناني. وتحولت الحدود إلي عازل سياسي وعسكري. وفي الجنوب لم تلتزم إسرائيل بالهدنة، بل اخترقتها مئات المرات، مستهدفة ما تبقي من البنية التحتية للحزب. وحتي البيئة الحاضنة له من المدنيين.
بينما الحكومة اللبنانية الجديدة، برئاسة العماد جوزيف عون، بدأت تصفية الحسابات بهدوء، وبدعم أمريكي واضح. وفي مشهد غير مألوف، أغلقت أبواب مطار بيروت، أمام طائرتين إيرانيتين، كانتا تحملان دعما ماليا للحزب. وتحت الضغط الإسرائيلي، رفض هبوطهما. علي الرغم من تهديد الحزب وحشده لأنصاره. قطعوا الطرق وأشعلوا الإطارات. لكن الجيش اللبناني، تصدي لهم. وفي خلفية هذا المشهد، تدفقت المساعدات الأمريكية، إلي الجيش اللبناني، بعد تحويل 95 مليون دولار، من المعونة العسكرية المخصصة لمصر، وتغيير اتجاهها إلي بيروت. حسب كثير من المصار الصحفية. ماركو ريبيرو، وزير خارجية إدارة دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي الحالي، صرح علنا. "بأن الجيش اللبناني، هو الضامن الوحيد لكسر القبضة العسكرية لـ "حزب الله". في حين ساءت أوضاع الحزب العسكرية والمالية، أكثر فأكثر. فحسب صحيفة ول ستريت جورنال، تراجعت موارد الحزب بشكل ملحوظ. ولم يعد قادرا علي ترميم القواعد المدمرة، التي تحتاج لأكثر من 3 مليارات دولار، لإعادة بنائها. اتضح سوء الأوضاع علي الأرض بقوة، في الحرب الإيرانيةـ الإسرائيلية. التي اندلعت في الثاني عشر من يونيو الماضي، وبينما كانت إيران في أشد الحاجات لحليفها الأقوي، الذي انفقت عليه مليارات الدولارات، لأجل هذه اللحظة. وقف الحزب عاجزا مكتفيا باصدار بيان تنديد بالهجوم الإسرائيلي علي إيران. بينما كانت خطة الردع الإيرانية لعشرات السنين، تجهيز "حزب الله"، للاشتباك مع إسرائيل، من المسافة صفر، في اللحظة الحاسمة. خرج مسئول الحزب، مصرحا لوكالة رويتيرز، "أنه من المستبعد تماما، مشاركتهم في المعركة بين إيران وإسرائيل". يبدو أن رحيل حسن نصر الله، خلف فراغا لا يملأ بسهولة. أختفي القادة، وتبعثرت القواعد، وفقدت الكثير من السيطرة علي الأرض. وحدثت الكثير من الانقسامات بين المسئولين الجدد. لكن علي الرغم من كل ذلك، لا يمكن القول، إن الحزب قد أنتهي. لأن الحزب، ليس شخص ولا حتي قيادة، إنه منظومة عقائدية متجذرة، في مجتمع يمثل ثلث لبنان. تملك ما يشبه الهوية السياسية، لا تزول بقصف أو حصار فقط. ولم تتأثر هذه الحاضنة، رغم الموت والدمار. بل ظهرت بقوة في جنازة "نصر الله"، التي تحولت إلي استعراض قوة رمزي. علي الرغم من الضربات. لكن ماذا عن صمت "حزب الله"؟. يرجع الكثير من المراقبين، هذا الصمت. إلي أن الحزب، يركز علي إعادة الهيكلية الداخلية. والبدء في مشروع بنية تحتية موسعة، لتصنيع السلاح والمسيرات. لتقليل الاعتماد علي إيران. خاصة بعد ما ضرب خط الإمداد البري من إيران، عبر العراق وسوريا. وحسب تقرير لمعهد دراسات الحرب، أشار إلي أن الحزب، علي الأرجح يسعي الآن لتركيز جهوده علي انتاج الطائرات المسيرة محليا. بعد أن تضرر بشدة من صعوبة تلقي الدعم اللوجستي الإيراني. الحزب أيضا، يواجه أزمة محلية مع الحكومة اللبنانية، التي تضغط بقوة لنزع سلاحه تماما. وليس مجرد الانسحاب فقط من جنوب نهر الليطاني. وفي هذا الإطار، أعلن رئيس الوزراء اللبناني، نواف سلام، أن الجيش اللبناني، فكك أكثر من خمسمائة موقع ومخزن سلاح، تابع لـ "حزب الله"، في جنوب البلاد. ما يعني أن الحزب، في طريقه لإعادة بناء نفسه، لن يواجه فقط صعوبة من الهجمات الإسرائيلية، بل إن خصومة في الداخل اللبناني، أعادوا تموضعهم للانقضاض عليه في لحظة ضعف. وحسب التقارير العسكرية، فإن إيران، لم تفقد الأمل في إعادة ترميم مشروعها الأكبر في المنطقة. فعلي الرغم من تعثر إمدادها للحزب، عبر سوريا. لكنها لا تزال تمتلك أوراقا أخري. تستطيع الاتصال بالحزب، واستئناف الدعم، عن طريقها. وقد أثبتت فاعليتها سابقا مع الحوثيين في اليمن. خيارات مثل، الطائرات المسيرة، والتهريب البحري، والشبكات اللوجستية. يمكن أن تسمح للحزب، بتلقي الدعم الإيراني، وإعادة ترميم نفسه من جديد. ما هو واضح، أن أسطورة "حزب الله"، لم تنتهي بعد، وأن للقصة بقية. لكنها في أخطر منعطف منذ نشأتها. إما أن ينكفيء الحزب، ويتحول إلي قوة سياسية فقط. أو يرمم نفسه، وينقض علي خصومه من جديد.