تشهد القارة الأوروبية في الأسابيع الأخيرة حراكًا غير مسبوق ضد إسرائيل، لم يقتصر على بيانات الإدانة أو الدعوات الدبلوماسية لوقف الحرب، بل امتد ليأخذ شكل خطوات عملية ومؤثرة على أكثر من صعيد. من الموانئ الإيطالية إلى البرلمان الإسباني، ومن أروقة الاتحاد الأوروبي إلى ملاعب كرة القدم، تتصاعد موجة غضب شعبي ورسمي على خلفية الحرب الإسرائيلية المستمرة ضد غزة وما خلفته من مجازر مروعة بحق المدنيين.
هذه التطورات تضع العلاقات الأوروبية الإسرائيلية أمام منعطف جديد، وتفتح الباب أمام مرحلة قد تتسم بمزيد من الضغوط الاقتصادية والسياسية، بل وحتى الرياضية والثقافية، وهو ما وصفه خبراء استراتيجيون بأنه بداية "حصار أوروبي" متعدد الأبعاد على تل أبيب.
احتجاز شحنات متفجرة في إيطاليا
في خطوة مثيرة للجدل، أعلنت السلطات الإيطالية احتجاز حاويتين تحتويان على مواد متفجرة في ميناء رافينا، كانتا في طريقهما إلى ميناء حيفا الإسرائيلي. رئيس بلدية رافينا، أليساندرو باراتوني، أكد أن القرار جاء بالتنسيق مع سلطات المقاطعة، وأن الهدف هو منع مرور أي أسلحة يمكن أن تسهم في "انتهاكات حقوق الإنسان".
من جانبها، أعلنت شركة إدارة الميناء أنها لن تستقبل شحنات متجهة إلى إسرائيل، استجابة لضغوط نقابية وإقليمية واسعة. هذه الخطوة أثارت جدلاً سياسيًا في إيطاليا، خصوصًا بعدما صرح وزير الخارجية أنطونيو تاجاني أن "هذه ليست أسلحة إيطالية"، مما دفع المعارضة إلى المطالبة بتوضيحات رسمية، فيما اعتبرت حركة "خمس نجوم" أن الحكومة تحاول التنصل من مسؤولياتها.
عقوبات أوروبية تلوح في الأفق
الأزمة لم تتوقف عند حدود الموانئ، بل امتدت إلى المؤسسات الأوروبية. فقد كشفت كايا كالاس، الممثلة العليا للشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي، عن خطط لفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، تشمل خفض العلاقات التجارية وفرض رسوم جمركية على واردات بقيمة 5.8 مليار يورو.
كما تتضمن الإجراءات استهداف شخصيات بارزة في حكومة نتنياهو، مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، بسبب مواقفهما المتشددة إزاء غزة والضفة الغربية. هذه الخطوة تعكس توجهًا أوروبيًا متصاعدًا لتجاوز حدود الإدانة اللفظية إلى أفعال عملية تؤثر على الاقتصاد والسياسة داخل إسرائيل.
الموقف الألماني.. تردد أم حسابات دقيقة؟
رغم تصاعد الغضب الأوروبي، بدا المستشار الألماني أولاف شولتس أكثر تحفظًا، إذ أكد أن برلين ستنتظر نتائج النقاشات داخل الاتحاد الأوروبي الأسبوع المقبل قبل اتخاذ قرار بشأن العقوبات. ألمانيا، التي ترتبط بإسرائيل بعلاقات تاريخية خاصة، تحاول موازنة موقفها بين ضغوط الشارع الأوروبي من جهة، والتزاماتها التاريخية والسياسية من جهة أخرى.
هذا الموقف يعكس الانقسام الأوروبي بين دول تتحرك بخطوات متسارعة كإيطاليا وإسبانيا، وأخرى أكثر حذرًا مثل ألمانيا وفرنسا، مما يضع الاتحاد الأوروبي أمام اختبار صعب للحفاظ على وحدة قراره السياسي.
الاحتجاجات الشعبية والنقابية تضغط على الحكومات
في خلفية هذه القرارات السياسية، يبرز دور الشارع الأوروبي الذي بات أكثر صخبًا في التعبير عن رفضه للحرب على غزة. شهدت مدن أوروبية إضرابات عامة في الموانئ ووسائل النقل والمدارس دعمًا لفلسطين، فيما أُغلق جناح إسرائيل في معرض سياحي بمدينة ريميني الإيطالية تحت ضغط المحتجين.
هذا الغليان الشعبي هو ما دفع الحكومات إلى التحرك خشية فقدان ثقة الناخبين أو مواجهة اضطرابات اجتماعية واسعة. فالسياسات الرسمية الأوروبية لم تعد قادرة على تجاهل الصوت المتنامي للشارع، الذي يرى في استمرار العلاقات مع إسرائيل دعمًا غير مباشر للمجازر بحق المدنيين.
الرياضة تدخل على خط المواجهة
التحركات الأوروبية لم تقتصر على الاقتصاد والسياسة، بل امتدت إلى الرياضة، أحد أهم مجالات "القوة الناعمة". تقارير إعلامية كشفت أن منتخب إسبانيا يدرس الانسحاب من كأس العالم 2026 إذا تأهل منتخب إسرائيل وسمح له بالمشاركة.
المتحدث باسم حزب العمال الاشتراكي الإسباني، باتكسي لوبيز، صرح بأن بلاده قد تصوت لصالح المقاطعة إذا لم يتم اتخاذ إجراءات ضد المنتخب الإسرائيلي، مشيرًا إلى أن ما يحدث اليوم يذكّر بقرار استبعاد روسيا من المنافسات الدولية بعد غزوها أوكرانيا عام 2022.
هذا الموقف قد يفتح الباب أمام دول أوروبية أخرى لتبني مقاطعات مشابهة، ما يشكل ضغطًا غير مسبوق على المؤسسات الرياضية الدولية مثل "فيفا" و"يويفا" التي تلتزم الصمت حتى الآن.
يوروفيجن على خط النار
لم يتوقف الأمر عند كرة القدم، بل وصل إلى عالم الثقافة والفنون. فقد أعلنت إسبانيا نيتها مقاطعة مسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن" إذا لم يتم استبعاد إسرائيل، لتنضم بذلك إلى دول مثل أيرلندا وأيسلندا وسلوفينيا وهولندا التي أبدت مواقف مشابهة.
إسرائيل لطالما اعتبرت مشاركاتها في هذه المسابقة فرصة لتقديم صورة "مدنية وحديثة" للعالم، غير أن المقاطعة المحتملة تعني فقدان واحدة من أهم ساحات "الدبلوماسية الثقافية"، وهو ما يمثل ضربة رمزية قاسية لصورتها الدولية.
ضغوط اقتصادية غير مسبوقة
أكد اللواء نبيل السيد، الخبير الاستراتيجي، أن احتجاز السلطات الإيطالية لشحنات متفجرات كانت في طريقها إلى ميناء حيفا، إلى جانب إعلان الاتحاد الأوروبي دراسة فرض رسوم جمركية على منتجات إسرائيلية بقيمة 5.8 مليار يورو، يعكس أن أوروبا بدأت تتحرك بخطوات عملية تؤثر مباشرة على الاقتصاد الإسرائيلي. وأوضح أن هذه الإجراءات لم تكن لتُتخذ لولا الضغوط الشعبية والنقابية العارمة التي أجبرت الحكومات على إعادة النظر في علاقاتها التجارية والعسكرية مع تل أبيب.
العقوبات وسيلة لتغيير السياسات
يرى السيد أن العقوبات الأوروبية المقترحة على وزراء بارزين في حكومة نتنياهو مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، تحمل رسالة سياسية واضحة مفادها أن السياسات المتطرفة ضد الفلسطينيين لم تعد مقبولة. ويشير إلى أن استهداف شخصيات بعينها يهدف إلى خلق ضغط داخلي على الحكومة الإسرائيلية وربما إحداث شرخ في تماسكها، ما قد يدفعها إلى مراجعة مواقفها المتشددة.
الأبعاد الرياضية والثقافية للضغط
المقاطعة لم تعد اقتصادية أو سياسية فحسب، بل امتدت إلى مجالات غير تقليدية مثل الرياضة والثقافة. التهديد الإسباني بمقاطعة كأس العالم 2026 إذا شارك المنتخب الإسرائيلي، والحديث عن انسحاب دول أوروبية من مسابقة "يوروفيجن"، يعكس انتقال الصراع إلى فضاءات كانت إسرائيل تعتبرها أدوات لتلميع صورتها عالميًا. وبحسب الخبير، فإن هذه التطورات تمثل خسارة رمزية مؤلمة لإسرائيل، إذ تحرمها من أحد أهم مسارات "القوة الناعمة".
انقسامات أوروبية بين التردد والحسم
رغم قوة هذه المؤشرات، إلا أن المشهد الأوروبي لا يخلو من التباينات. فتصريحات المستشار الألماني أولاف شولتس التي شدد فيها على انتظار نتائج النقاشات الأوروبية قبل حسم العقوبات، تعكس تحفظ ألمانيا التي ترتبط تاريخيًا بعلاقات خاصة مع إسرائيل. في المقابل، تتحرك دول مثل إسبانيا وإيطاليا بخطوات أسرع استجابة لضغط الشارع الغاضب. هذا الانقسام يضع الاتحاد الأوروبي أمام اختبار صعب: إما الحفاظ على وحدة الموقف أو مواجهة شلل سياسي قد تستفيد منه إسرائيل.
يختتم الخبير الاستراتيجي حديثه أن ما يجري اليوم قد يكون بداية حصار شامل على إسرائيل داخل أوروبا، ليس فقط اقتصاديًا بل سياسيًا وثقافيًا ورياضيًا أيضًا. ومع ذلك، فإن مستقبل هذا المسار يظل رهينًا بمدى قدرة الاتحاد الأوروبي على توحيد صفوفه، وعدم السماح للاختلافات الداخلية أو الضغوط الأمريكية بإضعاف الموقف الجماعي. فإما أن يشهد العالم ولادة موقف أوروبي أكثر استقلالًا وحسمًا، أو تبقى الخطوات الحالية مجرد رسائل رمزية لا تغير المعادلة جذريًا.
بين الموانئ الإيطالية والبرلمان الإسباني وملاعب كرة القدم الأوروبية، تتسع دائرة الضغوط على إسرائيل بشكل غير مسبوق. ما كان في الأمس شعارات تضامنية مع غزة، أصبح اليوم إجراءات عملية تمس الاقتصاد والسياسة والثقافة والرياضة. ورغم الانقسامات الأوروبية، فإن المؤشرات جميعها تدل على أن تل أبيب تواجه بداية عزلة متصاعدة داخل القارة العجوز.
يبقى السؤال المطروح.. هل سينجح الاتحاد الأوروبي في تحويل هذه التحركات إلى سياسة موحدة تفرض تغييرًا حقيقيًا في سلوك إسرائيل؟ أم أن الضغوط الأمريكية والانقسامات الداخلية ستبقي هذه الخطوات في إطار الرمزية دون تأثير جوهري؟ المستقبل وحده كفيل بالإجابة، لكن المؤكد أن أوروبا لم تعد تتعامل مع إسرائيل كما كانت تفعل من قبل.