العلاقات المصرية التركية لم تكن يوما ما مجرد ملف سياسي عادي بل كانت دوما بحرا من الصداقة والتواصل التاريخي الذي امتد عبر قرون. ربما في بعض الفترات شهد امواجا عالية خاصة بعد ثورة 30 يونيو 2013 حين دخل البلدان في حالة قطيعة سياسية بدت معها العودة إلى العلاقات الطبيعية شبه مستحيلة.
لكن في منطقة لا تعرف الثبات وتشهد كثير من الاحداث، فها هي العلاقات المصرية التركية تعود بشكل أقوى عن ذي قبل وبمصالح مشتركة للبلدين، فالتحولات الكبرى في هذه العلاقات جاءت من قلب التحديات الإقليمية خصوصا مع الغطرسة الإسرائيلية واندفاعها في سياسات عدوانية ليس في غزة فقط ولكن في المنطقة ايضا ثم الهجوم على الدوحة مؤخرا وهو ما كشف أن ميزان القوى لا يمكن أن يستقر إلا بوجود تكتل عربي إسلامي بقوى فاعلة توحد رؤاها لتلك المواجهة.
ربما يأتي أيضا إدراك القاهرة وأنقرة مع هذه التحولات أن الخلافات مهما كانت حدتها لا ينبغي أن تحجب ما يجمعهما من مصالح أعمق وأخوة مشتركة تاريخيا سواء في منطقة البحر المتوسط أو في دعم القضية الفلسطينية أو في حماية الأمن الإقليمي بمحيطهما.
التنسيق المصري التركي صار ضرورة استراتيجية بالفعل فمن يقوم على أكتافه استقرار المنطقة الآن هم القوى الإقليمية صاحبة الكثير من محطات التعاون المشترك على رأسها مصر والسعودية والإمارات وتركيا. هذه الدول باتت هي العصب الحقيقي للتحرك الإقليمي نحو كثير من القضايا وهو ما يحفظ التوازن في مواجهة الفراغات التي تتركها القوى الدولية أو السياسات العدوانية من جانب تل أبيب.
بالتأكيد أن العودة إلى لغة المصالح لا تعني تجاهل الخلافات لكنها تعكس نضجا سياسيا عاقلا يعيد تعريف الشراكة وفق رؤية أكثر براجماتية . فبين القاهرة وأنقرة مساحات أوسع من التعاون في كثير من الملفات مثل الطاقة وغاز شرق المتوسط وأيضا كثير من قضايا الأمن الإقليمي بالإضافة إلى المساحة الأرحب من التعاون الاقتصادي من خلال فتح مسارات جديدة للتبادل التجاري والاستثماري.
مرة أخرى نعيد التأكيد ان ما كان يبدو غير ممكن بعد 2013 تحقق بفضل قناعة متبادلة بين القيادتين في مصر وتركيا أن الخصومة تضعف الجميع وأن إسرائيل وحدها المستفيد الأكبر من أي انقسام عربي عربي او عربي تركي .
لذا فإن تجاوز الماضي بات خطوة سياسية ضرورية وايضا رسالة إلى الداخل والخارج أن القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة قادرة على صياغة مستقبلها بعيدا عن الإملاءات الخارجية وان ضفتي البحر المتوسط لا ينبغي لها الا ان تكون ضفتي بحر الصداقة الذي يجمع الان مصر وتركيا لتنسجا خيوط علاقة أكثر واقعية وعمقا لمصالح شعوبهما.
محمد مندور يكتب: مصر وتركيا و"بحر الصداقة"
