قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

منال الشرقاوي تكتب: تشويش

منال الشرقاوي
منال الشرقاوي

ربما يكون التشوش الحقيقي هو أن تكتشف أن ما تراه عيناك وحدها… هو الحقيقة كلها.
في سياق السينما السعودية يأتي فيلم «تشويش» في لحظة نضوج لافتة للسينما السعودية، التي بدأت تخرج من الإطار المحلي إلى فضاءات إنسانية أوسع. فبين أعمال تتناول المجتمع أو الذاكرة، يختار «تشويش» طريقًا آخر؛ طريق النفس والخيال والقلق. إنه فيلم سعودي الهوية لكنه كوني الوجع، يضع المشاهد أمام سؤال قديم وجديد معًا، أين تنتهي الحقيقة ويبدأ الوهم؟

في هذا العمل، يلتقي إخراج أحمد البابلي برؤية الكاتب سعيد حسين الزهراني في تجربة تُنتجها روح سعودية بإشراف يوسف حسين الزهراني، وتصوغها موسيقى خالد حماد.
يظهر في البطولة عزيز بحيص في دور خالد، إلى جانب أحمد صيام ومها حسن (سلامة) ومراد محمد ونزار السليماني.
الفيلم سعودي المولد، تدور أحداثه في قيرغيزستان، حيث تلتقي الطبيعة الباردة بحرارة القلق الإنساني، في عمل يتأرجح بين التشويق النفسي والدراما الاجتماعية.

حدود النفس والمكان
في تشويش (Tashweesh / Confusion)، يأخذنا أحمد البابلي في رحلة تمر عبر حدود النفس والمكان، حيث يعيش خالد - طالب سعودي مبتعث إلى قيرغيزستان- في تجربة تختلط فيها الحقيقة بالهلوسة، والغربة بالخطر.
"رأيتُ طفلة… لا يراها أحد سواي" 
هكذا يبدأ الصراع الذي يحمل الفيلم في طياته تساؤلات عبر جملة تفتح بابًا على عوالم من الشك، وتجعلنا نتساءل، من يملك الحقيقة فعلًا؟
في هذا الفيلم، نبحث مع خالد عن ما يُثبت وجوده...عن رؤية توازي رؤيتنا نحن، كمشاهدين. عندما يُتهم باختطاف الطفلة ، تتحول الحقيقة إلى عبء، ويصبح الكذب والصدفة والإدهاش أدوات في لعبة القدر.

خالد… الإنسان قبل البطل
قد لا يكون الرعب في «تشويش» صاخبًا… فهو ذلك النوع من الخوف الذي يزحف على أطراف أصابعه حتى تشعر بأن شيئًا ما في المشهد ليس في مكانه، شيء صغير، لكنه كفيل بأن يقلب عالمك رأسًا على عقب.
المؤلف سعيد حسين الزهراني يكتب خالد بطريقة تجعله قريبًا منا جميعًا؛ ليس بطلًا خارقًا ولا ضحية صافية، إنه إنسان عادي يفقد يقينه تدريجيًا، كما نفعل نحن حين نشك في ما نراه ونخاف أن نصدق أنفسنا.
كل ما حوله يبدو طبيعيًا… إلى أن يبدأ في التشقق. الأصوات تتغير، الألوان تفقد معناها. 
وما أروع أن تقع وأنت تعرف أنك ستقع.

المكان شريك الحكاية
أما قيرغيزستان في «تشويش» فهي ليست مجرد مسرح للأحداث، وإنما شريك غامض فيها. فغرائبية المكان تشبه غرائبية ما يحدث لخالد تمامًا؛ كلاهما يدهشك ويُربكك في اللحظة نفسها.  هكذا يصبح المكان امتدادًا لفكرة الفيلم نفسها؛ لا فرق بين الخارج والداخل، بين الطبيعة والعقل، فكلاهما مدهش… ومربك.

الطفلة… الصمت الذي يُربك
وكما أن لكل حكاية سرها الدفين، فإن سر «تشويش» يبدأ بطفلة لا تقول شيئًا… لكنها تُغير كل شيء.
وجود الطفلة، محور الحكاية، جاء موفقًا إلى حد كبير؛ فاختيارها جاء لافتًا في بساطته.
وجهها ساكن، خال من الانفعال، يكاد يكون «بوكر فيس» لا يشي بشيء، لكن هذا الصمت هو ما يصنع سحرها.
نظراتها تتركك تتساءل إن كانت بريئة فعلًا أم شاهدة على ما هو أعمق من البراءة.
وجودها في المشهد يخلق مساحة من اللايقين؛ فهي ليست رمزًا ولا واقعية تمامًا، لتترك السؤال مفتوحًا أمام المتفرج، من يختلق الآخر؟ هي أم خيال خالد؟


الضوء كحيلة نجاة
حتى أكثر العوالم ظلمة تحتاج ضوءًا صغيرًا كي تبدو حقيقية. فعلى الرغم من طابع الغموض، لا يخلو الفيلم من حس كوميدي خافت، يظهر في مواقف إنسانية صغيرة، وكأنه ابتسامة تأتي في لحظة خوف لتخفف وطأة العتمة.
هذا المزج بين التوتر والضحك يجعل العمل أقرب إلى الحياة نفسها، غير متوقعة، لا تعرف إن كنت ستضحك أم ترتجف في اللقطة القادمة.

الصورة تتكلم
ولأن الصورة في السينما جزء من روح الحكاية، فإن «تشويش» ينسج عالمه البصري بالهدوء نفسه الذي يخبئ العاصفة. ففي جانبه البصري، يقدم الفيلم تجربة تعتمد على بساطة مشحونة بالتوتر، حيث تتحول الألوان والفراغات إلى لغة خفية تحكي دون كلمات.
فكل ما لا يُقال في الحوار، تقوله الصورة بهدوء؛ هناك، في الضوء والظل، في الجدار الفارغ أو النظرة الصامتة، يسكن المعنى الحقيقي للفيلم.

الموسيقى… نَفَس الخوف
أما الموسيقى التي كتبها خالد حماد، فهي لا ترافق الصورة فحسب، وإنما... تتآمر معها.
فكل نغمة وكل صمت يعلو بعد جملة موسيقية يشبه لحظة إدراك مؤلمة.
إنها موسيقى لا تصف الخوف، لكنها تذكرك بأنك خائف أصلًا، حتى وإن لم تعترف بذلك.

النهاية… المرآة التي لا ترحم
ولأن السينما – كما يقول النقاد – «ليست ما نراه، وإنما ما نشعر به ونحن نراه»، فإن «تشويش» ينجح في أن يحملك إلى منطقة بين النوم واليقظة، بين الحلم والواقع، حيث لا يمكنك أن تثق حتى في نفسك.
إنه فيلم يُشبه مرآة مشوهة، كلما اقتربت منها لتتأمل صورتك، رأيت ملامحًا أخرى لا تخصك… لكنها تشبهك بشكل مقلق.

كل الحكايات تنتهي بصمت، لكن صمت «تشويش» له ظل آخر…
في مشهد النهاية، حين يختلط الصمت بالظلال، ندرك أن السؤال الأهم ليس:
«هل رأى خالد الطفلة حقًا؟»
ولكن: «كم من الأشياء في حياتنا نراها نحن وحدنا، ونسميها حقيقة؟»
ذلك هو التشويش الأكبر…
حين تكون الحقيقة موجودة أمامك، واضحة تمامًا، لكن عقلك يرفض تصديقها لأن التصديق يعني الألم.
في النهاية، يتركنا الفيلم في منطقة رمادية من الإدراك، لا بيضاء ولا سوداء. يطفئ الأضواء، ويترك لنا تلك المساحة الصغيرة من الغموض التي تجعلنا نعيد ترتيب ذاكرتنا بعد المشاهدة.
كنا نظن أننا نشاهد فيلمًا عن خالد… حتى اكتشفنا أننا نحن من كان عالقًا في تلك المرآة.