بعد مرور أكثر من مائة عام على طرح فكرة الثقوب السوداء في نظرية النسبية العامة لآينشتاين، أعلن علماء الفيزياء الفلكية في جامعة "جوته" الألمانية عن اختراق علمي يُعيد رسم تصورنا لهذه الأجسام الكونية الغامضة.
الاكتشاف، الذي نشر في دورية The Astrophysical Journal Letters، يسلط الضوء على آلية جديدة تفسر مصدر الطاقة الهائلة التي تطلقها الثقوب السوداء، وتحديدا الثقب الأسود العملاق "M87*"، أول ثقب تم تصويره بشكل مباشر عام 2019 عبر مشروع "أفق الحدث".
السر في "الانفجار المغناطيسي"
على عكس الاعتقاد السائد منذ عقود بأن هذه الطاقة ناتجة فقط عن دوران الثقب الأسود السريع، أظهرت الدراسة أن ظاهرة فيزيائية تُعرف باسم "إعادة الاتصال المغناطيسي" تلعب دورًا محوريًا في توليد تلك النفثات الهائلة من الطاقة، التي تمتد لآلاف السنين الضوئية عبر الفضاء.
تشبه هذه الظاهرة ما يحدث في الانفجارات الشمسية، حيث تتكسر خطوط المجال المغناطيسي وتعيد تشكيل نفسها، مطلقة كميات هائلة من الطاقة لكن في بيئة الثقب الأسود، تكون هذه العملية أعنف بمليارات المرات، وتحدث على حدود "أفق الحدث"، حيث تصل الجاذبية إلى أقصى درجاتها.
محاكاة غير مسبوقة تكشف قلب العاصفة
اعتمد الفريق على أداة حاسوبية متقدمة طوروها خصيصًا، تُعرف باسم "شيفرة فرانكفورت للجسيمات في خلية الزمكان" (FPIC)، لمحاكاة السلوك المعقد للجسيمات المشحونة والمجالات المغناطيسية حول الثقب الأسود.
ووفقا لقائد الفريق، البروفيسور لوتشيانو ريزولا، فقد كشفت المحاكاة عن انفجارات متكررة لفقاعات بلازمية فائقة السرعة تُعرف بـ"بلازمويدات"، تتولد قرب المستوى الاستوائي للثقب الأسود، وتُشكّل اللب الأساسي للنفثات الخارقة التي تُطلقها هذه الأجسام الكونية.
تفسير جديد للكون
التفسير التقليدي المعتمد على آلية "بلاندفورد –زنايك"، التي تربط الطاقة بالنشاط المغناطيسي الناتج عن دوران الثقب الأسود، بات غير كافٍ لفهم كل جوانب هذه الظاهرة، أما الاكتشاف الجديد، فيُشير إلى وجود آلية ثانية تعمل بالتوازي، ما يعني أن الثقوب السوداء تجمع بين قوتين: الدوران وإعادة الاتصال المغناطيسي، لإنتاج الطاقة الفلكية التي تؤثر في محيطها الكوني.
يقول الباحث المشارك الدكتور فيليبو كاميلوني: "هذا الكشف يفتح أفقًا جديدًا لفهم طريقة عمل الثقوب السوداء، ليس فقط كأجسام تبتلع المادة، بل كمولّدات هائلة للطاقة قد تُغيّر مسار تطور المجرات".
ليس مجرد لغز محلول بل بداية لفصل علمي جديد
لا تقتصر أهمية هذه الظاهرة على "M87*" فحسب، بل تمتد لتشمل تفسيرات جديدة لسلوك النجوم النيوترونية والنجوم المغناطيسية وحتى النوى المجرية النشطة (AGN)، وهي من ألمع وأقوى مصادر الضوء في الكون.
وتشير الدراسة إلى أن النفثات الناتجة عن الثقوب السوداء تلعب دورًا رئيسيًا في إعادة توزيع الغاز والغبار في المجرات، ما يؤثر في تكوّن النجوم ومسار تطور المجرة على مدى مليارات السنين.
من نهايات الضوء إلى بدايات الفهم
لطالما اعتبرت الثقوب السوداء نهاية لكل شيء مقابر للضوء والمادة لكن مع هذا التقدم العلمي، تعاد صياغة هذه الصورة لم تعد الثقوب السوداء مجرد نقاط لا عودة منها، بل مختبرات طبيعية للطاقة القصوى، تُنتج تفاعلات فيزيائية فائقة قد تحمل مفاتيح لفهم آليات عمل الكون نفسه.