لم تعد الزراعة اليوم مجرد نشاط تقليدي يعتمد على التربة والمياه والسماد كما كان في الماضي، بل أصبحت مع مرور الوقت نظامًا متكاملًا يتأثر بالعوامل المناخية أكثر من أي وقت مضى.
ومع تزايد تقلبات الطقس وظهور موجات حارة مفاجئة، وأخرى باردة أو عواصف ترابية متكررة، باتت الزراعة المصرية في حاجة ضرورية إلى تبنّي ما يسمى بـ”الزراعة المناخية الذكية”، بوصفها أسلوبًا عمليًا لحماية الإنتاج وتعظيم كفاءته، بدلًا من الاعتماد على الحلول المؤقتة وردود الأفعال الموسمية.
إن جوهر الزراعة المناخية الذكية لا يقتصر فقط على تغيير طرق الري أو تحسين الأصناف، بل يمتد ليشمل بنية كاملة من الابتكار الزراعي القائم على التنبؤ بالمخاطر قبل حدوثها، من خلال أنظمة إنذار مبكر وخرائط رطوبة التربة، وتحليل مستويات الإجهاد الحراري للمحاصيل والماشية، والاعتماد على نظم الري الدقيقة التي تعطي النبات حاجته الحقيقية من الماء دون هدر. وهنا تتحول المزرعة من مساحة إنتاجية تقليدية إلى “نظام مراقبة وإدارة بيئية” يتفاعل مع الظروف المتغيرة لحظة بلحظة.
ولعل التجربة المصرية في المشروعات الجديدة مثل مشروع الدلتا الجديدة، ومستقبل مصر، وتوشكى، تمثل نموذجًا واضحًا لنجاح تطبيقات الزراعة المناخية الذكية، سواء من حيث نظم الري بالاستشعار، أو الزراعات المحمية، أو الأصناف المتحملة للإجهاد الحراري والملوحة، ما يدل على أن الدولة بدأت تتحرك في الاتجاه الصحيح لضمان أمنها الغذائي في ظل التغيرات المناخية العالمية.
غير أن واقع الزراعة في عدد من المحافظات القديمة لا يزال يعاني من فجوة بين الممارسات التقليدية والمفاهيم الحديثة، نتيجة ضعف الوعي لدى بعض المزارعين، أو غياب الحوافز التي تشجعهم على الانتقال إلى الزراعة الدقيقة، وهو ما يجعل التحول المناخي في بعض الأحيان أشبه بتهديد مباشر للإنتاج، بدلًا من أن يكون فرصة لتحسين كفاءة الموارد وتحقيق استدامة أكبر.
وبوصفي متخصصًا في هذا المجال، أرى أن مصر قادرة على أن تكون نموذجًا عربيًا وأفريقيًا في الزراعة المناخية الذكية، إذا تم العمل على ثلاثة محاور متوازية: أولها التدريب الميداني للمزارعين على التقنيات البسيطة والقابلة للتنفيذ دون تكلفة عالية، وثانيها تعميم نظم الاستشعار والرصد المناخي في القرى الزراعية، وثالثها ربط الدعم الحكومي مستقبلاً بالالتزام بممارسات الزراعة الذكية، تمامًا كما فعلت دول رائدة في هذا المجال مثل المغرب وأستراليا والبرازيل.
كما أن دمج الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالإنتاج وتحديد الاحتياجات السمادية والري سيكون له دور حاسم خلال السنوات القليلة القادمة، خاصة مع تطور نظم التحليل الرقمي للصور الفضائية والطائرات بدون طيار، حيث يمكن للمزارع أن يدير أرضه من هاتفه المحمول، ويحدد درجة إصابة النبات بالإجهاد قبل أن تظهر عليه أي أعراض مرئية.
إن الانتقال من “الزراعة التقليدية” إلى “الزراعة الذكية” ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية لحماية الأمن الغذائي ومنع الخسائر وتقليل استهلاك المياه وتحسين جودة الإنتاج. والاهتمام بحوكمة البيانات الزراعية ليس مكملًا تنظيميًا، بل أصبح جزءًا من منظومة الحماية المناخية.
وفي النهاية، فإن مصر تملك فرصة ذهبية لتصبح مركزًا إقليميًا في الزراعات المناخية الذكية بفضل ما تمتلكه من مشروعات قومية ضخمة وخبرة بشرية واسعة، وإذا تم تعزيز الشراكات بين الجامعات، ومراكز البحث، والقطاع الزراعي الخاص، فإننا سننتقل من مرحلة “مواجهة المخاطر” إلى مرحلة “صناعة الفرص”، وهي الخطوة التي تضمن للأجيال القادمة زراعة قوية واقتصادًا غذائيًا مستدامًا يرتكز على الابتكار لا على المصادفة المناخية.