في زمنٍ كانت فيه البسمة عملة نادرة، ووجع الناس يمتد من الشوارع إلى الشاشات، خرج من قلب القاهرة القديمة رجل يحمل في قلمه ضوءًا وابتسامة، يحول الحزن إلى طرفة، واليأس إلى أمل، والدمعة إلى نغمة ضاحكة، ذلك الرجل هو أبو السعود الإبياري، الكاتب الذي علّم المصريين أن الضحك فن راقٍ لا يقلّ شأنًا عن الشعر والموسيقى، وأن الكوميديا ليست هروبًا من الواقع، بل مرآة صافية تكشف ما في أعماقه من ألم وحكمة وسخرية.
كان الإبياري ابنًا وفيًّا للشارع المصري، يعرف وجوه الناس ولهجاتهم، ويدرك ما يضحكهم وما يبكيهم، فحوّل همومهم إلى مشاهد خفيفة الظل، تضحكك من قلبك وتجعلك تفكر من رأسك، لم يكن مجرد كاتب كوميديا، بل مهندس وعي، يبني بالضحكة ما تهدمه القسوة، ويزرع في وجدان الناس يقينًا بأن الفن يمكن أن يكون دواءً للروح.
وُلِد أبو السعود الإبياري في 9 نوفمبر عام 1910 بحي باب الشعرية، لأسرة بسيطة آمنت بالاجتهاد والكدّ، ونشأ وسط ضجيج الحياة الشعبية التي شكّلت وجدانه، فامتص من الناس لغتهم وروحهم، وصاغها في كتاباته بعبقرية فريدة جعلت منه أحد أعمدة الكوميديا في مصر والعالم العربي.
من الزجل إلى السينما
بدأ الإبياري رحلته ككاتب زجل ومونولوج، يسكب كلماته بخفة ظل وذكاء اجتماعي لافت، كتب للمونولوجستات الكبار أمثال بديعة مصابني ومنيرة المهدية، واستطاع أن يجعل الكلمة تضحك دون إسفاف، وتنتقد دون أن تجرح، ومن المونولوج إلى المسرح والسينما، شقّ طريقه بثبات، ليصبح أحد أهم كتاب السيناريو في تاريخ الفن المصري.
شراكة المجد مع إسماعيل ياسين
اللحظة الفاصلة في مسيرته كانت حين التقى إسماعيل ياسين؛ فكان الإبياري القلم، وياسين الوجه، والنتيجة ضحكة خالدة في وجدان المصريين، كتب له أكثر من 50 فيلمًا شكّلت ملامح الكوميديا المصرية الحديثة، من إسماعيل ياسين في الجيش إلى العتبة الخضراء وابن حميدو، كانت العلاقة بينهما شراكة إنسانية وفنية فريدة، قائمة على الثقة والفهم العميق لطبيعة الضحك المصري.
كوميديا الوعي الشعبي
لم تكن أعمال الإبياري مجرد مواقف طريفة، بل كانت انعكاسًا للحياة نفسها، تناول في كتاباته قضايا الناس البسطاء، وانتقد الفساد والنفاق والطمع، وسخر من الزيف الاجتماعي بلغة يفهمها الجميع، كانت شخصياته مرآة للمجتمع: البسيط والمخادع، الطيب والمنافق، الرجل الطيب الذي يبحث عن رزقه، والمرأة التي تحلم بالحب والاستقرار.
إرث لا يغيب
كتب أبو السعود الإبياري أكثر من 350 عملًا بين فيلم ومسرحية وسيناريو، إلى جانب أعمال إذاعية لا تُحصى، وأثرى الحياة الفنية بإنتاج غزير يجمع بين المتعة والعمق. رحل في 17 أكتوبر 1969، لكن ضحكته ما زالت تسكن وجوه المصريين حتى اليوم.
لقد ترك مدرسة كاملة في الكتابة الكوميدية، مدرسة تقول إن الضحك لا يعني الخفة، وإن الفن الشعبي الحقيقي هو الذي يُضحك بعقل ويُفكر بقلب.
سيظل أبو السعود الإبياري، في ذاكرة الفن المصري، شاعر الضحكة الراقية وكاتب الوجدان الشعبي، الذي كتب للبسطاء فصار صوتهم، وعلّمنا جميعًا أن الكوميديا ليست لهوًا، بل فن إنساني نبيل يداوي جراح الحياة بالابتسامة.