إياك أن تدخل علاقة جديدة وأنت محطّم، ليس لأنك لا تستحق الحب، بل لأنك في تلك اللحظة لا تملك القدرة عليه. هناك فرق كبير بين الاحتياج للحب والاستعداد له، وبين الهروب إلى علاقة فقط لأن الصمت صار ثقيلًا، والوحدة صارت أكثر قسوة من أي خيبة سابقة. العلاقات التعويضية لا تُبنى على اختيار واعٍ، بل على فزع داخلي، على خوف من مواجهة الفراغ، على رغبة مستعجلة في إيقاف النزيف بأي شيء، حتى لو كان ذلك الشيء قلب إنسان آخر.
الإنسان الخارج من تجربة قاسية لا يخرج مثقّلًا بكل ما كُسر داخله، لا يخرج بلا أثر، بل محمّل بما لا يُرى. محمّل بالخذلان، بالتوقعات المنكسرة، بالأسئلة التي لم تُجب، بالذكريات التي لم تُدفن، وبحوار داخلي لا يتوقف. يدخل العلاقة الجديدة وهو لا يراها كما هي، بل كما يحتاجها أن تكون. لا يرى الشخص الذي أمامه، بل يرى فيه دورًا: دور المُنقذ، دور العِوض، دور المسكّن المؤقت. وهنا تبدأ أول خيانة غير معلنة، ليست خيانة جسدية، بل خيانة إنسانية، لأنك لم تأتِ لتُحب، بل أتيت لتُعالَج على حساب غيرك.
إياك أن تخرج من تجربة وأنت تنزف وتربط جرحك بقلب إنسان آخر. النزيف لا يتوقف بالاستناد على الآخرين، بل بمواجهة مصدر الألم. الخارج مكسورًا لا يملك القدرة على العطاء، مهما ظنّ أنه يفعل. كل ما يمنحه يكون مشروطًا، متوترًا، هشًّا. يقدّم اهتمامًا زائدًا يخفي خلفه خوفًا من الهجر، ويقدّم تعلقًا لا علاقة له بالحب، بل بالرعب من العودة إلى نقطة الصفر. وفي لحظة ما، دون وعي، يتحول إلى مصدر أذى، لأنه لا يستطيع إلا أن يكرر ما فُعل به، حتى لو أقسم أنه لن يكون نسخة ممن جرحوه.
الأنانية في العلاقات التعويضية لا تكون دائمًا واضحة أو مقصودة. أحيانًا تكون مغطاة بنوايا طيبة، بكلمات جميلة، برغبة صادقة في الشعور بالأمان. لكن الحقيقة القاسية أن انتظار العوض وأنت مكسور هو شكل من أشكال تحميل الآخر ما لا يحتمل. أنت تطلب من شخص لم يكن سبب جرحك أن يدفع ثمنه، أن يُصلح ما لم يُفسده، وأن يتحمّل تقلباتك، شكوكك، صمتك، وانسحاباتك المفاجئة. تطلب منه أن يكون حاضرًا دائمًا، متفهمًا دائمًا، صبورًا دائمًا، بينما أنت غائب عن نفسك أصلًا.
العلاقات التي تبدأ كملاذ آمن تتحول سريعًا إلى ساحة ألغام. كلمة بسيطة قد تُفجّر خوفًا قديمًا، تصرف عابر قد يُعيدك إلى خيبة لم تُشفَ منها. أنت لا تتفاعل مع الواقع، بل مع ذاكرة الألم. لا تسمع ما قيل لك، بل ما قيل لك سابقًا. لا ترى ما يحدث الآن، بل ما حدث وترك فيك ندبة مفتوحة. والنتيجة أن الطرف الآخر يقف حائرًا، لا يفهم سبب غضبك، ولا يعرف لماذا يتحول فجأة من شخص مُحب إلى متهم، من أمان إلى تهديد.
الخارج مذبوحًا من تجربة سابقة لا يدخل علاقة جديدة بقلب سليم، بل بقلب مُرهق، متوجس، دائم الحذر. يراقب أكثر مما يعيش، يشك أكثر مما يطمئن، ويتوقع النهاية حتى في لحظات القرب. هذا الشخص لا يمنح الثقة، لأنه لم يسترد ثقته بنفسه بعد. لا يسمح للحب أن ينمو، لأنه ما زال يخاف أن يُنتزع منه مرة أخرى. وهنا تصبح العلاقة سجنًا مزدوجًا: سجن له لأنه لم يتعافَ، وسجن للطرف الآخر لأنه يعيش تحت وطأة خوف لم يكن طرفًا فيه.
الحديث عن الحب بعد الصدمات ليس رومانسيًا كما يظنه البعض. الحب ليس مسكّنًا، ولا علاقة إسعافات أولية، ولا محاولة فاشلة للهروب من الألم. الحب مسؤولية، وعي، وقدرة على الحضور الكامل. وأنت مشوّه من تجربة أكلت فيك الأخضر واليابس، لا تكون حاضرًا، بل نصف غائب. جسدك موجود، لكن روحك عالقة في قصة قديمة. تبتسم، لكن داخلك حوار لا ينتهي مع شخص لم يعد موجودًا. تقول إنك تجاوزت، لكنك تقيس كل شيء بما كان، وتقارن دون أن تشعر، وتظلم الحاضر لأنه لا يشبه الماضي.
ضرير الروح لا يرى، حتى لو كانت عيناه مفتوحتين. القلب المصدوم يفقد قدرته على التمييز، فيخلط بين الاهتمام والاختناق، وبين القرب والتهديد، وبين الحب والسيطرة. يحتاج وقتًا، لا علاقة. يحتاج هدوءًا، لا ضجيج مشاعر جديدة. يحتاج أن يجلس مع نفسه، أن يعترف بما خسره، أن يحزن بصدق، أن يغضب بصدق، ثم أن يترك الألم يأخذ حجمه الطبيعي دون أن يتضخم داخل علاقة بريئة.
التعافي ليس ضعفًا، بل شجاعة. أن تختار التوقف، أن تعترف أنك غير جاهز، أن تبتعد حتى لا تؤذي، هذا وعي نادر. كثيرون يفضلون الهروب إلى علاقة جديدة بدل مواجهة الفراغ، لأن الفراغ يكشف الحقيقة، يكشف أنك لم تُشفَ، وأنك ما زلت تبحث عن نفسك بين أطلال قصة انتهت. لكن الحقيقة أن الوقت الذي تقضيه وحدك في التعافي، هو استثمار في نفسك وفي أي علاقة قادمة. هو المساحة التي تستعيد فيها توازنك، وتتعلم فيها حدودك، وتفهم احتياجاتك الحقيقية بعيدًا عن ردود الفعل.
لا أحد يستحق أن يكون ضحية تعافيك المؤجل. ولا أحد مُطالب أن يتحمل فوضاك الداخلية. الحب الذي يأتي قبل التعافي يكون مشوّهًا، ناقصًا، مليئًا بالتوقعات الثقيلة. أما الحب الذي يأتي بعد أن تستعيد نفسك، فيكون أهدأ، أصدق، وأكثر نضجًا. وقتها لا تبحث عن عوض، بل عن شراكة. لا تبحث عن من يُنقذك، بل عن من يسير معك. لا تدخل العلاقة لتملأ فراغك، بل لتشارك امتلاءك.
يا صديقي، تعافَ أولًا. دع قلبك يستعيد نبضه الطبيعي. دع ذاكرتك تهدأ. دع الألم يمر بدل أن يتخفّى في شكل علاقة. وبعدها فقط، ستعرف من يستحق، وكيف تحب دون خوف، وكيف تمنح دون أن تنزف، وكيف تدخل قلب إنسان آخر وأنت قادر على أن تكون أمانًا لا جرحًا جديدًا.