هل شعرتَ يوماً بأنك تجيد فنون البقاء؟ لا في غابةٍ مُوحشة، ولا في ساحة معركة، بل في ذلك الفراغ المستحيل بين الأكتاف المتلاصقة في مترو الساعة الثامنة صباحاً، أو في سباق العيون نحو النافذة الوحيدة الباقية في ميكروباص مكتظ، لقد تجاوزنا هنا مفهوم "التحدي" إلى فضاء "الملحمة التكنولوجية"، حيث لم تعد السرعة الجسدية وحدها تُحدد مصيرك، بل أصبح ذكاؤك الرقمي هو جواز مرورك نحو ذلك المقعد المنشود، الهاتف تحول إلى سلاح، والتطبيقات إلى خريطة كنز، والشبكة إلى حبل نجاة أو إلى خيط رفيع من اليأس!
لكن، أين يكمن الذكاء الحقيقي؟
ليس في الأجهزة وحدها، بل في تلك الشبكة البشرية الخفية التي تنسج خريطة حية للبقاء. ففي مجموعات الواتساب العائلية ومحادثات الزملاء، تُولد "عملة البقاء" الأثمن: "مترو العتبة فاضي النهاردة"، "اتجنبوا كوبري إمبابة التكتل مخلّي"، "في أتوبيسات جديدة نزلت عند ميدان الرماية"، هذه ليست مجرد نصائح عابرة؛ إنها بيانات حية في خوارزمية جماعية لا تُعلن عن نفسها، لكنها تتحكم في تدفق الملايين، إنه ذكاء القطيع في عصر رقمي، حيث كل مشاركة هي نبضة حياة في نظام النقل العصبي للقاهرة.
وهنا تكمن المفارقة الأعمق:
في أعماق الأرض، حيث يختفي النور الطبيعي، تُضاء شاشات الهواتف كنجوم صناعية شخصية، البحث عن "المقعد" يتحول إلى بحث مرَضي عن "إشارة"، تجلس جسدياً، لكن وجودك الحقيقي يسبح في الفضاء السحابي: هل سينتهي البث قبل النفق؟ هل سيُحمّل الملف قبل أن تموت الشبكة؟ لقد أصبحت قدرتك على البقاء "متصلًا" جزءًا لا يتجزأ من معادلة "الوجود" نفسها. فالمقعد لم يعد مجرد مكان للراحة الجسدية؛ بل هو محطة اتصال مؤقتة، واحة رقمية في صحراء الانقطاع.
فهل جاءت التكنولوجيا لتنقذنا أم لتعقّد اللعبة؟ دخلت تطبيقات النقل كفرسان على صهوات السيارات الحديثة، حاملين وعد الخلاص، لكنهم سرعان ما انضموا إلى ساحة المعركة نفسها، حاملين معهم ألغازاً جديدة: أسعار ذكية تتضخم مع كل نفس زائد، وسائق قريب على الخريطة بعيد في الواقع، وخيارات فاخرة تبقى حلماً في عالم الأرقام. حتى التكنولوجيا المنقذة تحتاج الآن إلى استراتيجية: متى أضغط على "احجز الآن"؟ وأي تطبيق يخبئ اليوم أقل مفاجأة سعرية؟ لقد ولّدنا "ذكاء تكتيكياً" موازياً، نبرمج فيه رحلتنا قبل أن نخطو خارج بيوتنا.
واليوم، ونحن على أعتاب ثورة مواصلات جديدة - بالمونوريل والقطار الكهربائي والحافلات الذكية - يطفو سؤال وجودي: هل تُحل المعادلة البشرية المعقدة بالخوارزميات وحدها؟ هل تُختزل معاناة الملايين وتنفُسهم الجماعي في شريحة ذكية أو كود حجز؟
الإجابة قد تكمن في لحظة صغيرة تهزم كل التكنولوجيا:
في نظرة تعاطف تتبادلها العيون قبل الألسنة، في حركة تلقائية يفسح بها الشباب مكانهم لكبير السن، في ابتسامة صامتة تُهدى إلى أم منهكة تحمل طفلها، هذه هي "التطبيقات" التي لا تحتاج لتحديث، والتي شبكتها لا تنقطع أبداً - شبكة القلب الإنساني، هنا في هذا الفعل البسيط، تتحول رحلة البحث عن مقعد من معركة بقاء إلى طقس من طقوس العيش المشترك، إنها اللحظة التي ينتصر فيها "البرنامج العاطفي" على "البرنامج الرقمي".
ففي النهاية، رحلتنا اليومية من (أ) إلى (ب) ليست مجرد انتقال في المكان؛ إنها رحلة في عمق النفس المصرية التي ترفض أن تكون مجرد مستخدم سلبي. لقد أصبحنا *مبرمجي واقعنا. نكتب كود المرونة بلغة الدعابة، ونطور خوارزميات التأقلم بالذكاء الجمعي، ونتخطى أخطاء النظام بلُطفٍ بشري، فكل مقعد نحصل عليه - أو حتى نتفق على تقاسُمه - ليس انتصاراً على الزحام فحسب؛ بل هو تأكيد على أن الروح المصرية قادرة على اختراع "حلولها الموازية"، حتى في أضيق الأماكن، وأسرع الرحلات، وأكثر التطبيقات تعقيداً. نحن لا نبحث عن مقعد فقط؛ **نحن نبرهن، يومياً، على مقعدنا الخاص في عصر التكنولوجيا.*