جوزف حرب في مجموعة الشعرية الأخيرة.. أحزان عميقة ونعي ذاتي مبكر
الشاعر اللبناني جوزف حرب في مجموعته الاخيرة قبل وفاته في أوائل هذا العام كتب شعرا بدا بعضه مقدمة للرحيل وقصة عن الاحزان العميقة وكأن في الامر نعيا ذاتيا مبكرا.
وفي الوقت نفسه فإن المجموعة التي حملت اسم (قلم واحد في ثلاث أصابع) حملت قصائد تفيض صورا حية وأوزانا هادئة.
وجاءت المجموعة في 428 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن دار (رياض الريس للكتب والنشر) في بيروت.
قصائد حرب متعددة الاوزان والقوافي وتتسم بنبض موسيقي خفيض بعيد عن الدوي والصخب فكأنها في غالبها تنطق بلسان الاحزان المختلفة او ترسم في أقسام منها لوحات فنية فيها طرافة وقدر من الغرابة والجمال.
بين القصائد الاولى واحدة تفيض حزنا ولوعة وشعورا بالخسارة والفقد وبمرور الزمن بقسوة صامتة. حملت القصيدة عنوان (لا شيء) وفيها يقول الشاعر "لكثرة الغياب والوداع-وكثرة الرحيل-يقطر بالدموع بيتي يكثر التلويح-فيه العمر-ضاع-ضاع-ضاع. لا شيء في بيتي سوى الذراع-لا شيء في بيتي سوى المنديل-لا شيء الا عيني التي ارتدت-مدمعها-الطويل".
أما قصيدة (الموتى) ففيها محاولة للهرب من الاحزان من خلال تخزين الصور التي نحب وفي مسعى لاستيقاف الزمن بل تجميده عند حالات ووجوه معينة والاحتفاظ بصور للاحبة.
فيقول الشاعر "ممتلئ رأسي بالاموات ولكن- لا -قبر برأسي -لا شاهد- لا ألواح-ولا سرو. وليس برأسي أي رفات- بل أحياء يعيشون كما كانوا- قبل-جنائزهم-لا راحل منهم-لا غائب فيهم-وبرغم مرور الايام-فلا أحد منهم يكبر. في رأسي-صور للاعمار السابقة.. الوقت لهم".
ويضيف بما يذكر بأسطورة أورفيوس الذي كتب عليه أن يشعر بحبيبته الراحلة حية وراءه فلا يراها أو يلمسها أو يحدثها. يقول حرب "غابوا-لكن-في الافق الساكن فينا-لا نلمحهم-لا نلمسهم-لا نتحدث ابدا معهم-نتأمل-ندخل في ان نتصور من ماتوا-نتحول-من واقع انا نحيا معهم احياء-لأن نتخيل-نتحيل-فيهم بعض منا-فينا بعض منهم-ومع الموتى نتبدل-لا يمحوهم نسيان-ما ان نتذكرهم-يتساقط فينا مطر الاحزان-وتمر الايام علينا-سوداء القمصان".
وفي قصيدة (فلأعترف) نوع من الوداع للحياة ووصف لزمن الرحيل.. "ما عاد لي وقت-ولا اهل ودار-ما عاد عندي مقعد لي بعد-في هذا القطار-ما عاد لي حتى مكان-كي أقف-فلأعترف.. رحل النهار".
وفي قصيدة (المائدة) جردة حساب للعمر تنتهي -كما انتهت سمكة ارنست همنجواي في روايته (الشيخ و البحر)- مجموعة عظام جرداء.. "المائدة-لم يبق منها-مع مرور السنوات-إلا الفتات".
ويبقى هناك قليل من التعويض وبعضه في الشعر. ففي قصيدة (خوف) يقول جوزف حرب "كم أخاف-أيها الشعر اذا غبت طويلا-ان يصيب الروح والاوراق والحبر-الجفاف. كم أخاف-ان يصير الحور لا اوراق او-طير ولا -قمصان شيرازية النسج-الضفاف.
"كيف أحيا؟ لا صلاة البحر-تجديني-ولا يجدي الطواف-كم أخاف. ليس عندي لحبيبي نرجس الماء-ولا عندي لخصر الشمس-زنار-ولليل سلاف-كم اخاف-لا شموع لعروسين ولا كأس نبيذ او زفاف-انها اجنحة للبعد-سواد وجفاف-كم اخاف".
إلا ان هناك حسرة تأكل الشاعر لان العمر يمضي سريعا وكان يتمناه اطول من ذلك. في قصيدة (عمري) يقول "كلما فكرت في عمري امام الكون-اخجل. ليت عمري كي أملّي مقلتي-من رؤية الغيم-أمام الريح-يجري -كان أطول".
ويقفل الشاعر على نفسه وعلى العالم ففي قصيدة (باب) يقول "ولكي- لا احد-يقرعه هذا الباب عليّ- لا -باب -لديّ".
وعلى نهج الرومانتيكيين الذين يرون الكون في حبة الرمل و محيطات العالم في قطرة الماء ونهج الحزانى الذين يرون اختلاط البدايات في النهايات يقول "لم ألمح غيما-إلا ورأيت النهر-والصبح. أرى في الصبح العصر-وإذا مرت ثانية-أعرف كيف يمر الشهر".
ولدى الشاعر عالم من الصور الموحية منها المجازي ومنها المنسوج بأدوات الواقع. في قصيدة (بيتي) يقول "أحيا في أغنية. بيتي أغنية أحيا- فيها وأنا أصغي لجمال اللحن. وحين أغادر بيتي-تقفل خلفي-أذناي-باب- الناي".
وفي قصيدة (وجع) يقول "أغلى-الجمل-وجع-يحمله الكلام-مثل-هجرة البجع".
وللبجع ورحيله هوى في نفس الشاعر ففي قصيدة (بجع) وهي عن البجع المتنسك يرسم لوحة بانورامية مشهدية خلابة تحفل بحزن يتحرك بهدوء وصمت وجلال. يقول فيها "من الشباك-أرى بجعا غروب الشمس مرخيا-يا جنحة-بلون ملاك-مساء الخير قلت له.
رفعت ملوحا بيدي-فلا لوّح-ولم يصدح-وحين بغابة الشربين-في دير له أصبح-وبات هناك-عرفت بأنه بجع من النساك".