الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

سوريا البريئة


ليس ثمة شئ أكثر بشاعة من أن تُقدِمَ للموت إبناً أو أخاً أو رفيقا" لك بينما تود أنت أن تكون مكانه.. ولا تستطيع.
وليس للحياة معنى حينما تصبح أنت مجرد أشلاء، ربما تقضي ما تبقى لك من أيام وأنت تُلملِمها، حتى إذا ما اكتملتْ، استسلمت لنهايتك المحتومه طالباً الموت لتستريح.
وليس للمال أية قيمه إذا ما فقد بريقه ووظيفتَهُ وعجز عن أن يمنحك ساعة واحدة تخلد فيها لنوم مطمئن.
تلك هي قوانين الحروب، وهذا هو ميراثها.
كلما رأيت آلة الحرب الجهنمية وهي تمضي فوق أجساد الأبرياء في سوريا رافعة راياتها المفزعة ، فلا تكاد تعرف من ضد من، أتذكر كيف سَطًر أهلوها في التاريخ صُحُفاً من نور تُعَلِم الدنيا معنى الإنسانيه والتقدم، وتضع أُسُسَاً للفقه والشعر والأدب والفلسفة والعلوم، وكيف كانت تلك البلاد مصدراً للنور وللحضارة ، ثم كيف أصبحت دمشق، حاضرة العرب ومنبع شموخه وأصل التاريخ وسُؤدُدَه، مرتعاً للجهلاء والمتآمرين وأصحاب الفتن.
أظل اتجول بين الخبر المقروء والمسموع والمرئي فلا أُشاهد إلا الدم يسري أمام عيني فتستحيل الصورة أمامي الى بقعة حمراء قانية تتسع كلما شاهدت أكثر، وكلما سمعت أكثر، فمايزيد على خمسة أعوام مضت وسورية لا تنام، والدم لا يجف، والأنفاس حبيسة الصدور ، وآلة الحرب تحصد كل يوم بالمئات ، والفارُ من الموت يلقى الموتَ على أطرافها وفي البحارِ وعلى الشطئآنِ ، والناجون ينزفون في بلاد الغربة ، والغربة ُصورة مزيفة للوطن المسلوب لا تمنحك الحياة إلا حين تنزع عنك كل ما تملك.
عندما ترى جثث الأبرياء طافية فوق سطح البحر تنتشلها السفن العابرة ، تشعر بالخزي والحزن ، وتتعجب كيف تآمر عليها كل هؤلاء!، حتى الموجُ أبَى أن يحملها إلى شاطيء آمن فتركها فريسة للأسماك والحيتان.
كيف طال الفزع بيوت الآمنين الذين نَجَواْ من القصف حتى صار ضوء المصباح الشحيح مصدر قلق دائم ، وصارت صنابيرُ المياةِ تأن من الجفاف ، حتى السجون بلا كهرباء ولا ماء .والقصف يستهدف المرضى قبل الأصحاء في المشافي. وصار الإتجار بالدم مصدرَ رزقِ دائم للكثيرين هناك .
كيف تحولت صورة الموت المتكرره إلى خبر معتاد ، ممل ، تتابعه وأن تحتسي فنجان القهوه في الصباح ، وصوت بكاء الأطفال اليتامى والخائفين والمرتاعين الممزوجة بأصوات القنابل والمدافع والطائرات ، مجرد خلفية ليومك تحملُها إليك شاشات التلفاز وأبواق المذياع فتلجأ لخفض الصوت قليلاً كي لا تسبب لك إزعاجاً وأنت تباشر علملك أو تتناول طعامك الساخن.
أن يتحول وطنك إلى ساحة صراع بين قوى لا تستطيع تمييزها على نحو دقيق ولا دخل لك فيها ، أن يتساوى بيتك بالأرض ولا تقدر على أن ترفع أنقاضه كي تنتشل ضحاياك وذويك من أسفل حطامه ، أن تتلقى عربات الإسعاف قذائف تأبى إلا أن تقتل ما تبقى من مصابين فيها ، ليس لهم ذنب إلا أنهم بقوا صامدين متشبثين بأخر أمل لهم في الحياة.

كل هذا وأكثر يجري في سوريا ، بينما هناك شعب لا تزال لديه الرغبة في الحياه ، حتى لو كان بين الحطام والدمار .شعب لا زال يضع فسيلته في الأرض ويسقي العُشبَ منتظراً الحصاد رغم الألم والمرارة والموت المتربص به كل لحظة ، شعب لا تعنيه المصالح والقوى و الطوائف والأحزاب والمذاهب والملل قدر ماتعنيه الحياة وتهمه الكرامه ويعنيه الصمود
الآن يقول السوريون ما قاله جبران قديماً مخاطباً قوى التحزب والتشرذم والصراع في وطنه :-
" لكم لبنانكم ولي لبناني
لكم لبنانكم ومعضلاته، ولي لبناني وجماله.
لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض والمنازع، ولي لبناني بما فيه من الأحلام والأماني.
لكم لبنانكم فاقنعوا به ، ولي لبناني و أنا لا أقنع بغير المجرد المطلق.
لبنانكم عقدة سياسية تحاول حلها الأيام ، أما لبناني فتلول تتعالى بهيبة و جلال نحو إزرقاق السماء
أتظنون أن الأثير يُخَزِنَ في جيوبه أشباح الموت و أنفاس القبور ؟ أتتوهمون أن الحياة تستر جسدها العاري بالخِرقِ البالية؟ أقول لكم و الحق شاهد عليِ" إن نصبة الزيتون التي يغرسها القروي في سفح لبنان لَأبقَى من جميع أعمالكم و مآتيكم ، و المحراث الخشبي الذي تجُره العجول في منعطفات لبنان لأشرفَ و أنبلَ من كل أمانيكم و مطامعكم . أقول لكم و ضمير الوجود صاغ إلي إن أغنية جامعة البقول بين هضبات لبنان لأطول و أعمر من كل ما يقوله أوجَهُ و أضخمُ ثرثار بينكم . أقول لكم إنكم لستُم على شيء .و لو كنتم تعلمون أنكم لستُم على شيء لتحول اشمئزازي منكم إلى شكل من العطف و الحنان ، و لكنكم لا تعلمون ."
وهكذا سوريا اليوم ، تمزقها الحروب والصراعات ، ويلملم أشلاؤها دفء الناس وخصوبة الأرض.
أيها الناس، امنحوا سوريا الحياة فإنها تستحقها.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط